قضيت النهار كاملا أراقب سلوك طفلتين فى الثالثة من عمرهما. خرجت من الملاحظة بما يشبه المنظومة السلوكية إذا صح التعبير وإذا لم يعترض عليه الأصدقاء والصديقات المتخصصون والمتخصصات فى علم نفس الأطفال. أعترف بأننى كنت أبحث عن أنواع من السلوك عشنا نتصور أن الإنسان لا يمارسها الا كبيرا وناضجا. رأيت بنفسى الطفلتين تمارسان بعض هذه الأنواع من السلوك. فكرت حينها أن تصوراتنا ربما كانت غير سليمة. لاحظت مثلا أن الطفلتين رفضتا التمييز بينهما فى النصيب من الحب والحلوى والعصير. فى الوقت نفسه رأيتهما يصران على أن يحصلان، كل على حدة، على نصيب أكبر. لمست الضيق ثم الغضب حتى الاشتباك الجسدى لمجرد أننا أنصفنا واحدة وظلمنا الأخرى. رأيت بعينى ما يشبه الحقد فى عينى ذات النصيب الأقل ورأيت الفرحة فى تصرفات ذات النصيب الأوفر. مرت دقيقة لا أكثر وقع خلالها الاصلاح المطلوب وتحقق تعويض ذات النصيب الأقل. فجأة وبانبهار ممتع رأيتهما بعد أن تحققت المساواة تعودان فى سعادة ووفاق لتتبادلان لعبهما وتتعاونان فى ألفة ومحبة فى ترتيب المكان أو إثارة الفوضى فيه.
***
راحت ترتب المكان وأنا موجود فيه. انهيت ما فى يدى وطلبت منها زجاجة ماء سرعان ما عادت بها فنظرت إليها شاكرا. رأيت وجهًا شاحبًا وعينين غارقتين فى بحر من السواد وبقايا قطرات دموع لم تمسح جيدا. احترت كعادتى فى مثل هذه المواقف. لا أتدخل حتى يطلب منى التدخل. ترددت هذه المرة وفى النهاية تدخلت. طلبت منها التوقف عن الترتيب والتنظيف فاعتذرت عن إزعاجى، أرادت فقط الانتهاء من الغرف قبل أن تدخل المطبخ. أردت معرفة ما يقلقها حتى البكاء. قالت إنها لم تبك «ولكن يا أستاذ، وحضرتك سيد العارفين، ساعات كتير الواحد مننا دموعه تنزل وهو مش حاسس». لم أرد فمعارفى لن تفيدنى فى تأكيد أو رفض ما تعتبره حقيقة معروفة. طلبت منها للمرة الثانية التوقف عن العمل والجلوس. ألقت بقماشة التنظيف على أقرب مائدة وتوقفت، أما عن الجلوس فامتنعت أو لعلها تمنعت. انطلقت تحكى وقطرات جديدة من الدموع تتجمع فى مقلتيها وكرامتها تمنعها من وقفها قبل النزول إلى خديها.
***
لا تقرأ ولا تكتب. لم أسالها يوما عن عمرها لاعتقادى أنها لا تعرف متى ولدت. اعتقادى صائب إذ عندما سألتها عن أعمار الصبيان من أولادها، أجابت «واحد متجوز وواحد حيخش الجيش والتالت فى أولى إعدادى، حضرتك تقوللى يبقى سنهم إيه». مع ذلك تحسب حساباتها ببراعة تحسدها عليها آلة خصصت لتحسب. عرفت منها أن الكانتالوب اسمه أناناس وأنها تسكن فى غرفة بطابق «مزن» فهمت أن المزن ثمرة التطويع اللغوى لكلمة ميزانين، أى الطابق الخفى، أو الطابق المحشور بين طابقين. تعرف الفرق بين اللاب توب والآيباد ولا تتأخر فى الاتصال بمن أرسل «المس كول». بادرت بأن سألتنى إن كنت أعرف أن الوجبة الواحدة، وهى واحدة بالفعل فى كل الأحوال، تكلفها ما يزيد عن ستين جنيها. تمر على السوق فى الحى الذى تسكن فيه، وبالمناسبة هو الحى نفسه الذى كتبت عنه هنا قبل شهرين حين زرت مؤسسة قضايا المرأة، تمر على الست «بياعة الخضار» لتشترى عددا من حبات الخضار ثم الجزار الذى يحتفظ لها دائما بنصف «ماسورة» ثم البقال من أجل كيس أرز، ومن البقال إلى الخباز. هناك تشترى أرغفة عديدة فبناتها يتبادلن زيارتها ساعة الغداء يصحبهن ذرياتهن. أسمع، والآن أعرف، إن ابنها تلميذ الإعدادى، مثل مئات الألوف من أبناء وبنات المصريين يكلف أهله خمسين جنيها للدرس «الخصوصى» وثلاثين جنيها للمجموعة.
***
لماذا البكاء؟ دق فى بيتها الهاتف النقال وكانت إحدى بناتها على الناحية الأخرى تبكى وتصرخ طالبة نجدتها. إنها الابنة الأصغر والأجمل من بين أربع بنات. حظها، حسب قصة الأم، تعيس. فقد تزوجت مرتين، أنجبت فى الأول صبيا استولى عليه أبوه بحجة أنها تزوجت بعد طلاقها. وهو الآن، وأقصد الطفل، فى الابتدائى. وهى، وأقصد الابنة، حامل فى شهرها السابع من الزوج الثانى. حاولت معرفة سن الابنة سيئة الحظ فقالت «هى أكبر قليلا جدا من شقيقها المطلوب للجيش. خمنت أن تكون فى أوائل العشرينيات. استطردت قائلة ما معناه إنها دخلت بيتها الذى هو غرفة وصالة فيها بوتاجاز صغير وحلتين وصحنين، فوجدتها فى غرفتها على فراشها تبكى وتصرخ من شدة الألم وقد اكتست عينها اليمنى باللون الأزرق وتورمت. طلبت من زوجها «الميكانيكى توك توك» نقودا لتشترى لنفسها وله ما يتعشون به. صرخ فيها متهما إياها «عايزانى أنهب، كل يوم عايزة فلوس. أجيب منين إذا كان العيال السواقين معهمش فلوس يدفعولى». حاولت إقناعه أن هناك على الطريق طفلا يصرخ فى بطنها من الجوع. اقترب منها وفى عينيه شرارات غضب وكره «بتتمسكنى طب خدى» موجها نحو عينها «يا بيه لكمية ما يستحملهاش راجل». وراح يجرّها من شعرها على الأرض ذهابا وإيابا وهى تصرخ من الألم. جرتها الأم إلى أقرب صيدلية حيث دفعت ثلاثين جنيها ثم إلى شقتها فى «المزن» لتطعمها ما تبقى من أرز وملوخية وفتة، «كله على مية الماسورة والله يا بيه». جاء الزوج معتذرا لحماته «هو الشيطان والله يا أمى والغلا اللى ما بيرحمش حتى الشاى بطلته». وبينما كانا يتأهبان للخروج دخلت الأم حمامها وخرجت بورقة عشرين جنيها، أخذها الزوج ولم ينطق بكلمة شكر.
***
ينقل هايديهيكو تاكاهاشى عن مواطن يابانى قوله «عندما نشمت فى أثرياء فقدوا ثرواتهم فذلك لأننا نعتقد أنهم سرقوا المجتمع أو لأننا نحسدهم على ثرائهم ونجاحهم فى صنع الثروات واكتنازها». يدافع تاكاهاشى عن الحاسدين فيقول «قد تكون سمعة الحسد سيئة ولكنه حافز ممتاز وقوى التأثير فى جهود تحقيق المساواة وزيادة الربح والعمل المثمر». أما دانييل زيزو من جامعة آنجليا فى انجلترا فيقول إن الناس إذا يئسوا من عدالة المجتمع لجأوا إلى السحر والشعوذة للضغط على الأغنياء والحكام. المثال البارز على جمود النظام الطبقى هو حالة ولاية أوتار براديش فى شمال الهند حيث تتضامن التقاليد والأعراف الهندوسية مع النظام السياسى لإبقاء الفقراء فقراء والحيلولة دون صعود أبنائهم اجتماعيا. وهى دعوة أرى صداها يتردد بكثرة فى أجواء بعض السياسيين وأصحاب المناصب العليا فى كثير من مؤسسات الدولة المصرية مؤذنا بعواقب وخيمة يتعامون عنها.
***
اهتم باحثون غربيون بقضية المساواة وأثر اللا مساواة على سلامة النسيج الاجتماعى. فمن خلال دراسة طويلة لعينة من القرود اكتشف كيث جينسين من جامعة لايبزج فى ألمانيا أن القرود لا تمانع فى أن تحصل قرودا أخرى على نصيب أوفر من الموز. بينما يقول فرانس دى فال من جامعة إيمورى فى ولاية جورجيا الأمريكية: إن البحوث التى أجراها تثبت أن القرود والأرانب والكلاب تفضل فى البداية عدالة التوزيع، فإذا لم يتوافر التوزيع العادل لجأت القرود، كما يحدث مع الأطفال، للحصول على نصيب أوفر. المهم فى كل هذه الدراسات أنها أكدت ان الحيوانات لا تحسد ولا تحقد. بمعنى آخر، طباعهم غير طباع البشر فالبشر يحسدون ويحقدون. البشر يثورون إذا لم يحقق الحسد أو الحقد العدالة فى التوزيع والصعود من طبقة إلى طبقة أعلى. ناهيك عن المرارة المركبة التى تشعر بها الطبقة التى انحدر مستواها خلال مراحل ما يسمى بالإصلاح فينتقل أفرادها إلى حال الفقر بعد حال الرضاء والرخاء.
***
أتفق مع بعض ما كتبه دى فال الألمانى حين قال إن الحقد والحسد والغضب سلوكيات طبيعية ومشروعة، لكنه حذر من التمادى فى ممارستها واستخدام النميمة والشائعات وسياسات الإقصاء للضغط على الأغنياء وكبار المسئولين. يقول، وأكرر اتفاقى معه، إن التمادى فى هذه الممارسات قد يقتل الحافز للترقى والتقدم والصعود الاجتماعى.
***
سألتها إن كانت تريد الاستطراد فى الشكوى قالت إنها لا تشكو لكنها بالحديث معى تتخفف من آلام القسوة، قسوة الزمن وقسوة الناس. سألتنى إن كنت أعلم أنها وحدها، بدون زوج يساهم ويعنف، تدير حيوات ثمانية عشر فردا هم مجموع عائلتها الصغيرة. قالت إنها لا تخشى على نفسها وعلى عائلتها عواقب الغضب الذى تشعر به وتئن تحته، ولكنها تخشى عواقب غضب الآخرين ضد بعضهم البعض «وضد الناس اللى حواليهم«. إن ما فعله زوج أصغر بناتها مع زوجته الحامل يقدم مشروع نموذج لفرد واحد غاضب ومتمرد، أما الناس الذين تقابلهم فى السوق كل صباح وتراهم يصيحون ويسبون ويشتبكون، فهؤلاء يقدمون مشروع نموذج لجماعة غاضبة لن تلبث أن تتمرد، إن لم تتحسن بسرعة أحوالها ويزول الغبن الواقع عليها.