يأتى قرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ــ منذ أيام ــ بالاعتراف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان السورية المحتلة ليقدم دليلا جديدا على إخفاق القيادة الخليجية للنظام الإقليمى العربى، إذا كان قد بقى من هذا النظام شىء تحت هذه القيادة، التى تمثلت فى المملكة العربية السعودية وحدها فى أوائل هذا القرن، حتى انضمت إليها الإمارات العربية المتحدة بعد عام 2011.
على أية حال لن يكون القرار الأمريكى الجديد حول الجولان أشد وطأة على الشعوب العربية من قرار الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على القدس العربية، ونقل السفارة الأمريكية فى إسرائيل إليها تأكيدا لوحدة المدينة كعاصمة «أزلية وأبدية» للدولة الإسرائيلية والشعب اليهودى، وهو القرار الذى كشف ما كان مضمرا من قبله، أى كشف حقيقة أن الأمن الخليجى ــ كما يفهمه أولو الأمر هناك ــ قد ابتلع الأمن القومى العربى كله، أو ما كان يسمى بالأمن القومى العربى قبل عقود.
كما نعرف فقد تولت السعودية قيادة النظام العربى تشاركها مصر بعد تحرير الكويت من كارثة وجريمة الغزو العراقى، فى أوائل تسعينيات القرن الماضى، ثم انفرد السعوديون بالقيادة العربية بعد الغزو الأمريكى البريطانى للعراق فى 2003، سواء من خلال قيادة مجلس التعاون الخليجى، أو بالتشاور مع القيادة المصرية ممثلة فى الرئيس الأسبق حسنى مبارك، وكانت مبادرة بيروت العربية للسلام الشامل مع إسرائيل مقابل حل الدولتين هى ذروة الدور القيادى السعودى للنظام العربى فى تلك الحقبة، وقد لا يتذكر كثيرون أن الصحفى الأمريكى المشهور توماس فريدمان هو الذى اقترح بنود هذه المبادرة فى مقال له بصحيفة نيويورك تايمز، قبل أن يقترحها مباشرة على ولى العهد السعودى آنذاك القائم بأعمال الملك الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، ليضيف فريدمان فى مقال تال أن الأمير رد عليه قائلا: «كأنك تقرأ أفكارى، فمشروع هذه المبادرة موجود فى أحد أدراج المكتب الذى أجلس عليه الآن، ولكن أريد أن أتأكد أولا من استعداد إسرائيل لقبولها»، ليرد فريدمان قائلا إنه يرى أن يعلن الأمير مبادرته بغض النظر عن استقبال إسرائيل لها، فكان أن قدمها ولى العهد السعودى للقمة العربية التالية فى بيروت، لتحمل اسم المبادرة العربية بدلا من اسم المبادرة السعودية.
كانت مبادرة بيروت هى لحظة وصول الدور السعودى فى قيادة النظام العربى إلى ذروته ــ كما سبق القول ــ لأنها حصلت على تأييد الدول العربية قاطبة دون استثناء أو تحفظ، فقد كان الجميع قلقين من تبعات هجمات 11 سبتمبر سنة 2001 الإرهابية على نيويورك وواشنطن، بمن فى ذلك بشار الأسد ومعمر القذافى وصدام حسين.
فى السنوات التالية طرأت أحداث وتحولات بالغة الضخامة، متداخلة أحيانا ومتناقضة فى أحيان أخرى أدت إلى شروخ أخذت فى الاتساع فى القيادة السعودية للنظام العربى، لتصل فى لحظتنا الراهنة إلى الانكفاء على الأمن الخليجى، على حساب الأمن القومى العربى ككل، وعلى حساب الحقوق العربية فى الصراع مع إسرائيل
فى مقدمة تلك الأحداث الضخمة الغزو الأمريكى البريطانى للعراق عام 2003، الذى أدى إلى نتيجتين متناقضتين بالنسبة للسعودية والخليج، إذ أزيل نظام صدام حسين العدوانى والمقلق لجيرانه، وضعفت الدولة العراقية نفسها إلى الحد الأدنى، إلا أن سقوط صدام كان إيذانا بتفوق إيرانى كبير على تخوم الخليج، وفى العراق وسوريا ولبنان.
ومن تلك الأحداث أيضا اغتيال القطب السياسى اللبنانى رفيق الحريرى، رجل السعودية الأول، ورمانة الميزان الطائفى فى هذا البلد، وترتب على هذا الحدث الجلل انسحاب القوات السورية من لبنان، ووقوع شرخ كبير بين الرياض وكل من دمشق، وحزب الله اللبنانى.
ثم جاءت الحرب الإسرائيلية الموسعة على لبنان عام 2006، ردا على نجاح حزب الله فى أسر جنديين إسرائيليين للمساومة بهما على تحرير أسرى لبنانين وفلسطينين لدى إسرائيل، وأدى الانتصار المدوى للحزب على إسرائيل فى هذه الحرب إلى هزات سياسية عميقة فى أنحاء المنطقة، وقد كان الملك عبدالله ملك السعودية قد أدان أسر الجنديين الإسرائيليين، ووصف هذه العملية فى بيان نادر بصوته بأنها تصرف كارثى وغير مسئول، ومن ثم فقد أعتبر انتصار حزب الله فى تلك الحرب دليلا على تسرع العاهل السعودى، وعلى سوء تقدير مستشاريه، المتأثرين بالرؤية الأمريكية، لكن ما زاد الأمر سوءا، وبلغ بالشرخ منتهاه هو وصف الرئيس السورى بشار الأسد لمن أدانوا حزب الله من الزعماء العرب بأنهم «أشباه رجال»، ولم يكن واردا قط أن يغفرها الملك عبدالله، ولا غيره من العائلة المالكة، ولا غيرهم ممن مسهم رذاذ كلمات الرئيس السورى.
هنا كانت إسرائيل نفسها والولايات المتحدة من ورائها قد اكتشفا الطريق للالتقاء مع السعودية ضد حزب الله، والقيادة السورية، ومن ورائهما إيران، إذ أصبح الانتقام من حزب الله ضرورة إسرائيلية نفسية، كما أصبح تجريد هذا الحزب من قوته المؤثرة فى التوازن العسكرى فى المنطقة هدفا له الأولوية فى استراتيجية إسرائيل والولايات المتحدة، ولا شك لدى فى أن الأمريكيين والإسرائيليين المتمرسين فى لعبة الأمم، وفى استغلال المداخل النفسية للقادة السياسيين عرفوا كيف يستغلون الغضب السعودى من تهجم بشار، ومن بروز حزب الله، لكى يضخموا ما يسمى بالخطر الإيرانى على أمن الخليج، فى وقت كانت فيه العلاقات الأمريكية الإيرانية قد اتجهت نحو الحوار، وفى وقت لم تكن فيه ثورات الربيع العربى قد نشبت بعد.
حفل هذا الربيع العربى نفسه باختبارات عسيرة، وتناقضات مريرة للسياسة السعودية، ولمجلس التعاون الخليجى ككل، فبينما وقف الخليجيون ضد الثورات فى مصر وتونس واليمن والبحرين طبعا، فإنهم ساندوا الثورة السورية فى بدايتها، وطوال سنوات زخمها، وساعدوا على تحويلها من حراك سلمى إلى ثورة مسلحة، وهو ما قوبل بمساندة هائلة بالرجال والسلاح من جانب إيران وحزب الله للنظام السورى، ليخسر الخليجيون جولة أخرى لمصلحة إيران وحلفائها، وليتزايد الإحساس بالخطر الإيرانى، مع مزيد من الانكفاء على الأمن الخليجى.
وكما نعرف لم تنتظر الجبهة اليمنية طويلا، لتنفتح بدورها على مصراعيها أمام النفوذ الإيرانى، من خلال الانقلاب الحوثى على الحكومة الموالية للسعودية، ولتنضم دولة الإمارات العربية إلى السعودية فى حرب ساخنة ضد إيران وحلفائها هناك.
بذلك اكتمل انكفاء القيادة السعودية للنظام العربى على الأمن الخليجى وحده، وتقدمت إسرائيل القلقة من حزب الله، ومن الوجود الإيرانى فى سوريا لاستثمار الموقف، وتكريس مبدأ أن إيران هى العدو، بتأييد كامل، ومشاركة فعالة من جانب الولايات المتحدة، خاصة بعد دخول ترامب إلى البيت الأبيض، وانسحابه من اتفاق الدول الكبرى مع إيران حول برنامجها النووى، وإعادته فرض العقوبات عليها، وهكذا ظهر مشروع الناتو العربى ضد إيران برعاية أمريكية، ومشاركة إسرائيلية، ليتأكد نهائيا ابتلاع الأمن الخليجى للأمن القومى العربى، ولتقصر السعودية دورها القيادى على دائرتها الخليجية فقط، ولتنطلق يد إسرائيل ويد ترامب فى تصفية القضية الفلسطينية، وفرض رؤية اليمين الإسرائيلى التوسعية على كل الجيران، سواء فى القدس أو الضفة الغربية أو الجولان، بل وحتى الأردن، التى حذر عاهلها عبدالله الثانى منذ يومين من مشروع الوطن الفلسطينى البديل فى جزء من مملكته، بالتبادل مع أراض سعودية.!
ليس هدفنا من كل ما سبق إلا تبيان النقطة التى وصلنا إليها وكيف وصلنا إليها، وتبيان الخطأ فى الانكفاء على الأمن الخليجى لدرجة ابتلاعه الأمن العربى ككل، آملين فى إمكان إيجاد صيغة تحقق التوازن بين أمن الخليج والأمن العربى الشامل، وقد تكون عودة سوريا لمقعدها فى جامعة الدول العربية مدخلا مناسبا لاستعادة الحوار الخليجى الإيرانى، بما يؤدى فى نهاية المطاف إلى تسويات فى اليمن والعراق ولبنان، فضلا عن سوريا ذاتها، بما يحفظ للجميع حقوقهم ومصالحهم، وبما يزيل مخاوفهم، فى إطار نظام للأمن الإقليمى بعيدا عن المظلة الأمريكية الإسرائيلية، أليس ذلك هو الأمثل تاريخيا، وقوميا، ومن حيث تفضيلات الشعوب؟!.