نشرت صحيفة المغرب التونسية مقالا للكاتبة آمال قرامى، تناولت فيه رفض تطبيق مبدأ المناصفة فى اختيار أعضاء المحكمة الدستورية التونسية وبينت بالتفصيل كيف مثّل المجتمع البطريكى المحافظ القاعدة الصلبة وراء عدم تمكين التونسيات...
نعرض منه ما يلى:
لا يزال أغلب التونسيين/ات تحت وقع الصدمة بعد رفض تطبيق مبدأ التناصف فى اختيار أعضاء المحكمة الدستوريّة...
يستغربون تجاهل ما جاء فى الدستور من مواد تنصّ على المساواة والتناصف، وتحقّق الإجماع بين أهل اليمين وأهل اليسار على منع النساء من تولّى مناصب قيادية، وكأنّها المرّة الأولى التى تحدث فيها المناصرة والتحالف بين «الأخوة الأعداء». فكلّما كان الرهان سلطوّيا وذا وشائج بفكرة القيادة والزعامة وحماية الامتيازات الذكورية والمصالح الحزبية بلغ الصراع ذروته وأطلّت الأيديولوجيا الذكورية من مكمنها وضحّى القوم بحقوق النساء، وهو أمر متوقّع إذ ظلّ طرح «قضايا المرأة» على امتداد التاريخ المعاصر للدولة القطرية ورقة ضغط سياسى يتلاعب بها من هم فى السلطة.
ولئن تراوحت ردود الفعل من «اليساريين» و«الديمقراطيين» و«الحداثيين» بين التقريع، والسخط، واللوم الشديد، والتنديد بالخذلان... فإنّ الموقف من الإسلاميين، وخاصّة نائبات حزب النهضة، وحزب ائتلاف الكرامة كان أشدّ ضراوة فهنّ «عورات فى خدمة حركة الإخوان» و«جوارى النهضة».. والواقع أنّ رفض التناصف منتظر فالسياق اليوم سياق «تمكين» يدفع حزب النهضة إلى التخلى عن استراتيجياته السابقة المتمثلة فى الظهور فى لبوس الحزب الإسلامى الديمقراطى الذى لا يجد غضاضة فى فسح المجال أمامهنّ حتى يحققن المرئية المطلوبة. ولذا انضمت فئة من التونسيات لهذا الحزب الذى نجح فى تسويق صورة «غير مألوفة» وصدّقن سرديته وصرنّ يروّجن لفكرة مفادها أنّه «حزب تخلّى عن قناعته وأجبر على التكيّف مع الواقع التونسى الحداثى».
يأتى تخلّى النهضة عن أداء دور الحزب الإسلامى الديمقراطى والوسطى والعصرى والمتونس والمناصر لحقوق النساء و«الأقليات»... فى سياق سياسى اتسّم بالاستقطاب والصراع من أجل فرض الهيمنة ولذا فإنّ المحكمة الدستورية لا تشكّل شرطا من شروط استكمال مسار التحوّل الديمقراطى بل هى رهان كبير وضمانة هامّة باعتبارها وسيلة، فى تصوّر القيادات، لحفظ مصالح الحزب وموقعه. من هذا المنطلق وجب تعيين رجال بمواصفات خاصّة فى هذا الموقع من ذلك إتقان ممارسة الدهاء، والتفنن فى المراوغة، وتوظيف «فقه الحيل» والتلاعب بتأويل النصوص، وكتم الأسرار وغيرها من المهارات. ووفق التمثلات والصور النمطية التقليديّة (النساء لا يحفظن الأسرار، لا يصمدنّ أمام الضغوط، جبانات...) لا يمكن للنساء احتلال هذا الموقع كما أنّ المرجعيّة التقليدية تحذّر من تمكين النساء من القضاء وفضّ الخلافات التشريعية والسياسية «فإن المصلحة المدركة بالعقل تقتضى عدم إسناد الولايات العامة لهن، فإن المطلوب فيمن يُختار للرئاسة أن يكون على جانب كبير من كمال العقل، والحزم، والدهاء، وقوة الإرادة، وحسن التدبير، وهذه الصفات تتناقض مع ما جُبلت عليه المرأة من نقص العقل، وضعف الفكر، مع قوة العاطفة، فاختيارها لهذا المنصب لا يتفق مع النصح للمسلمين، وطلب العز والتمكين لهم». وإذا نظرنا إلى المسألة من زاوية بناء الرجولة لاح لنا أنّ الرجولة تقضى أن لا يسلّم القوم أمرهم لامرأة «تحيض وتبيض».
ويتّضح أنّ المجتمع البطريكى والمحافظ يمثلّ القاعدة الصلبة التى تجعل اليمينى و«التقدمى ــ الحداثى» يلتقيان، ويتحدان فما ترسّخ فى اللاوعى هو عدم أهلية النساء للمناصب العليا وحيازة السلطة، بل هو الخوف من أنموذج جديد من الأداء الذى ظهر مع سامية عبوّ، وخاصّة عبير موسى. إنّ هذا الأنموذج يحرّك المشاعر الدفينة فتتسع دوائر الخوف من النساء وتبرز معاداتهن بشكل جلى. وما دامت أغلب المنتميات إلى الأحزاب الإسلامويّة «منضبطات» ويتحرّكن وفق تعليمات الأب/ الشيخ ويستمتعن بحمايته ومباركته لتحركاتهن فإنّهنّ لا يملكن، فى الواقع، سلطة القرار بحكم التنشئة الاجتماعية ودخلنة القيم المعيارية والأيديولوجيا الذكورية. إنّهنّ تابعات لمن يُدبّر ويخطّط نيابة عنهنّ، وهنّ راضيات بهذا الوضع ما دامت النتيجة هى تمكين النهضة وتحصيل الغنائم لهنّ ولأزواجهنّ وأبنائهنّ وأحفادهن...
أمّا تعبير هؤلاء النسوة عن فرحهنّ برفع الأيادى والضحك والحبور فإنّه يفسّر فى اعتقادنا، بردّ فعل صبيانى لا يرقى إلى مستوى الأداء السياسى إذ إنّهن تتصوّرن أنّ «وضع العصا فى العجلة» هو شكل من أشكال التشفى من «عبير» فتغدو المسألة فى إطار الاستفزاز، والشماتة وتصفية الحساب بعقلية «الضرائر» العدوّات... ولولا اقتران «الزغريد»، وهو شكل تعبير ارتبط فى الغالب بالنساء، بعبير موسى فى المتخيّل السياسى لأطلقت «النهضاويات» ومن دار فى فلكهنّ الزغاريد. ولكن نسيت هؤلاء أنّ السياسة والمعارك «يوم ليك ويوم عليك» وأنّ التمكين يتبعه الضعف والانحدار وتلك قواعد علم العمران. رحم الله نوال السعداوى حين ربطت استلاب النساء وانعدام الوعى لديهنّ بأنظمة القمع المتعاضدة: الدولة والدين والبطريكية، والمجتمع، والرأسمالية...
النص الأصلى: