بقدر ما يشكل التدخل العسكرى الروسى فى أوكرانيا نقطة تحول تاريخية فى الفكر الاستراتيجى والسياسات العسكرية، تلوح فى الأفق العالمى إرهاصات نظام دولى مغاير لذلك الذى يوشك أن يطوى صفحات سيرورته الجيوسياسية.
فأمريكيا، وبعدما بشَر بنظام عالمى جديد، يتوسم فيه اصطفاف العالم الحر خلف القيادة الأمريكية، توجه الرئيس بايدن إلى بروكسيل للمشاركة فى قمم ثلاث، لحلف شمال الأطلسى، ومجموعة السبع، والاتحاد الأوروبى. متوسلا من ثلاثتها تأكيد اللحمة الغربية فى مواجهة روسيا، التى تحاول باجتياحها لأوكرانيا، تغيير موازين القوى بالقارة العجوز، ووضع نهاية لنظام القطبية الأحادية الأمريكية. وعبراستراتيجية «الحزم المشترك»، أكد بايدن على صلابة التحالف الغربى فى المعركة الكبرى التى تخوضها القوى الديمقراطية ضد السلطوية. وفى مسعى منها لاستنزاف القوة الشاملة الروسية، انبرت واشنطن فى كبح جماح تقارب موسكو وبكين، وإعادة الدفء للتحالف الأوروأطلسى، وإنهاء الهيمنة الروسية على أمن الطاقة الأوروبى فى غضون خمس سنوات. بالتزامن، عمدت إدارة بايدن إلى إمداد أوكرانيا بمنظومات تسليحية سوفييتية سرية، وأخرى غربية، مع تكثيف التموضع العسكرى الأمريكى بشرق أوروبا، واستثمار الأزمة الأوكرانية لمضاعفة مبيعات السلاح والطاقة الأمريكية للحلفاء. وردا على تصاعد حدة التوتر بين الصين والفلبين ببحر الصين الجنوبى، دشنت واشنطن مناورات عسكرية مشتركة مع الفلبين لمدة أسبوعين، بغية ردع بكين.
أوروبيا، شكل الإلحاح الأمريكى فى دعم أوكرانيا بمنظومات تسليحية سوفييتية يسهل استخدامها، فرصة لدول شرق ووسط أوروبا الأطلسية، لإحلال وتجديد ترسانتها المتقادمة، من المقاتلات وأنظمة الدفاع الجوى السوفييتية. بالتوازى، أفضى الغزو الروسى لأوكرانيا إلى إجهاض التعاون الجيوسياسى مع موسكو ضمن الشراكة الأطلسية. وبعدما اعترف بعدم جهوزيته العسكرية للتعامل مع التهديدات والتحديات الأمنية، اعتمد الاتحاد الأوروبى استراتيجية جديدة للدفاع والأمن المستدامين، صيغت فى وثيقة «البوصلة الاستراتيجية»، لتعزيز سياساته الأمنية والدفاعية بحلول عام 2030. حيث تم الاتفاق على إنشاء «قوة انتشار سريع»، وإجراء تدريبات حية ومنتظمة فى البر والبحر، والارتقاء بقدرات التصدى للهجمات السيبرانية والتهديدات الهجينة والمعلومات المضللة، وبلورة استراتيجية للأمن الفضائى.
وخلال قمته الاستثنائية الأخيرة ببروكسيل، اعتبر الناتو الغزو الروسى لأوكرانيا أخطر تهديد يحاصر الأمن الأوروأطلسى منذ عقود. ومن ثم، قرر تعزيز أمن جناحه الشرقى، عبر ردع روسيا بثمانى مجموعات قتالية متعددة الجنسيات على طول الجانب الشرقى من بحر البلطيق إلى البحر الأسود. واستجابة لدعوة وارسو إلى مضاعفة الإنفاق الدفاعى الأوروبى، تحسبا لأى هجوم روسى على بولندا، أوفنلندا، أو دول البلطيق، أعلنت 23 دولة أوروبية تجمع بين عضوية الناتو والاتحاد الأوروبى، رفع إنفاقها الدفاعى من 1.5%، من ناتجها المحلى الإجمالى، تعادل 200 مليار دولار سنويا، إلى2% عام 2024. الأمر الذى سيخولها تطوير الأسلحة وخوارزميات الأنظمة الإلكترونية، ورفع موازنات الصد الإلكترونى من الطائرات المسيرة والتجسس الفضائى والحرب السيبرانية.
عقب ضم روسيا لجزيرة القرم عام 2014، رصد تقرير لمعهد ستوكهولم الدولى لبحوث السلام، نموا هائلا فى واردات الأسلحة الأوربية. فبعدما حققت رقما قياسيا عالميا بارتفاع مشترواتها من الأسلحة بنسبة 19%، قفزت حصة القارة العجوز ببورصة التجارة العالمية للسلاح، التى يفوق حجمها مائة مليار دولار سنويا، من 10 إلى 13%. حيث أسهمت أزمة الثقة بين روسيا ومعظم البلدان الأوروبية، فى تفاقم مبيعات الأسلحة الأمريكية إلى أوروبا. وخلال عامى 2020 و2021، زاد التهافت الأوروبى على اقتناء المقاتلات الأمريكية من طراز «إف ــ 35». وبجريرة الغزو الروسى لأوكرانيا، تخلت حكومة المستشار الألمانى شولتز، عن نهج سابقتها، لجهة الموازنة بين الاعتبارت الأمنية والمصالح التجارية. وتوخيا منه لردع الطموحات البوتينية، جنح، شولتز، لإعادة هيكلة الجيش الألمانى وتزويده بأحدث المنظومات التسليحية، عبر استثمار 5 ,2٪ من الناتج المحلى الإجمالى فى التسلح، بزيادة قدرها 0.9%، تعادل 20 مليار يورو، ليتم توجيه 100 مليار يورو للإنفاق الدفاعى بميزانية 2022. ومن شأن تنامى تلك النزعة العسكرية الأوروبية، أن يلقى بظلال من الغيوم على توازن القوى بين أوروبا وروسيا، التى ما عادت شريكا جيوسياسيا للغرب.
بعد حياد استراتيجى امتد لعقود، إزاء التوترات العالمية، تبنت دول مثل: السويد، وفنلندا، والنمسا، وسويسرا، وأيرلندا، موقفا مناهضا للتدخل العسكرى الروسى فى أوكرانيا، الذى ارتأته تهديدا لأمن أوروبا بأسرها. ومساندة منها للموقف الأوكرانى، أغلقت مجالها الجوى أمام الطائرات الروسية، وفرضت عقوبات على موسكو. وفى تطور غير مسبوق منذ العام 1939، قدمت السويد مساعدات عسكرية نوعية لأوكرانيا. وخلافا للسياسة التى اتبعتها منذ خمسينيات القرن الماضى، بخصوص عدم إرسال أسلحة إلى دول غير أعضاء فى الناتو، قررت النرويج تزويد أوكرانيا بمنظومات تسليحية متطورة.
وتطلعا منها لرأب الصدع فى علاقاتها مع الاتحاد الأوروبى، بعدما رفض المجلس الاتحادى السويسرى عام 2021، تبنى الاتفاقية المنظمة للعلاقات مع بروكسيل، خصصت سويسرا مددا عسكريا لأوكرانيا، وفرضت عقوبات على موسكو. وانطلاقا من المخاوف الناجمة عن الغزو الروسى لأوكرانيا، بدأت دول محايدة مثل السويد، وفنلندا، والنمسا، التفكير فى الانضمام للناتو، الذى شاركوا فى مناورته الحربية الكبرى بشمال النرويج، الشهر الفائت. وفى سابقة هى الأولى فى تاريخ الاتحاد الأوروبى، الذى تحظر مواثيقه ومعاهداته توجيه أمواله للمشاريع العسكرية، أو إمداد دول من خارجه بالسلاح، استبق الأوروبيون قمم بروكسيل الثلاث الأخيرة، بتزويد أوكرانيا بما تتجاوز قيمته مليار دولار من المساعدات العسكرية.
أما آسيويا، فقد غضت بكين الطرف عن أطروحة المفكر الاستراتيجى الصينى الأشهر، صن تزو، بخصوص اعتبار السيطرة على العدو من دون قتال أبرع ما ينجزه القائد العسكرى. فعلى وقع الاجتياح الروسى لأوكرانيا، أقدمت الحكومة الصينية على رفع ميزانيتها العسكرية بنسبة 7,1%، وزيادة قدرها 6,8% عن العام الماضى، لتلامس 230 مليار دولار، وتغدو الأعلى منذ العام 2019، وتحتل المرتبة الثانية عالميا بعد نظيرتها الأمريكية، البالغة 740 مليار دولار. وبذلك، يتخطى نمو الإنفاق العسكرى الصينى، نموالناتج المحلى، البالغ 5,5% لهذه السنة. وجراء تفاقم المخاوف من استلهام بكين للسيناريو الروسى حيال أوكرانيا، لغزو تايوان برمائيا وضمها للصين عنوة، طالبت أوساط أمريكية بتكثيف الدعم العسكرى الأمريكى النوعى لتايوان، مع رفع مستوى تأهيل قواتها.
لم تكد كوريا الشمالية تحذر العالمين من إمكانية تخليها عن الوقف الذاتى للتجارب النووية، واختبارات الصواريخ العابرة للقارات، حتى هرعت، لأول مرة منذ العام 2017، إلى استغلال الحرب فى أوكرانيا، لإجراء ثلاث عشرة تجربة لاختبار أحدث وأقوى صواريخها الفرط صوتية، كما تلك الباليستية العابرة للقارات، بمديات كاملة. وهى الخطوة التصعيدية، التى اعتبرها الرئيس الكورى الشمالى استعراضا لقدرات بلاده النووية، وردعا منها لأية تحركات عسكرية أمريكية عدوانية محتملة. بيد أن الرد الكورى الجنوبى جاء سريعا، بإطلاق عدة صواريخ باليستية استراتيجية وتكتيكية، لإظهار القدرة على توجيه ضربة دقيقة، إذا لزم الأمر، ضد مواقع إطلاق الصواريخ الكورية الشمالية وأنظمة قيادتها.
على خلفية ضم روسيا للقرم عام 2014، فرضت اليابان عقوبات رمزية على موسكو، كما شرعت فى إعادة تفسير المادة التاسعة من دستورها، بعدما سلبتها دهرا، حق الاحتفاظ بقوات مسلحة ذات إمكانات قتالية. وفى سبتمبر2015، سن البرلمان اليابانى سلسلة من القوانين التى تسمح بتعزيز قدرات البلاد العسكرية، وتمكين قوات الدفاع عن النفس، من مؤازرة الحلفاء المشاركين فى عمليات قتالية حول العالم. وعلى أثر الغزو الروسى الحالى لأوكرانيا، تعاظمت المخاوف اليابانية من طموحات موسكو، التى دأبت طائراتها وسفنها الحربية على اختراق مجاليها الجوى والبحرى، فيما أطلقت، أخيرا، مناوراتها العسكرية بجزر الكوريل المتنازع عليها، بينما لم يوقع البلدان معاهدة سلام تنهى الأعمال العدائية المحتدمة بينهما منذ الحرب العالمية الثانية. وبناء عليه، أعادت طوكيو صياغة استراتيجيتها للأمن القومى، لتصنف روسيا «تحديا أمنيا». ونتيجة للقلق المتصاعد من النزعات التوسعية البوتينية، أعلنت طوكيو تضامنها مع واشنطن لاحتوائها، ومن ثم، جمدت أصول البنك المركزى الروسى لديها. وفى ملمح بالغ الخطورة، دعا رئيس الوزراء اليابانى السابق، شينزو آبى، إلى مراجعة اللاءات النووية اليابانية الثلاث، المتمثلة فى: عدم امتلاك الأسلحة النووية، أو تصنيعها، أو إدخالها إلى الأراضى اليابانية.
كفيلة عسكرة التفاعلات الدولية، تحت وطأة العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا، بإذكاء سباقات التسلح، وتقويض المقاربات الدبلوماسية لتسوية الصراعات وحلحلة الأزمات. ما ينذر بتجاوز المواجهات العسكرية حدود الميدان الأوكرانى. لتتواصل المعاناة الإنسانية، ما بين تداعيات كارثية لاندلاع حرب عالمية ثالثة، وعواقب مأساوية لانبعاث التهديدات باستخدام أسلحة الدمار الشامل.