اعترفت أمام جلساء سهرة بزيارات منتظمة، وإن متباعدة، أقوم بها لصفحات من الفيسبوك تخص أصدقاء وأقرباء. كنت قبل شهور أشعر بالخجل من ممارسة هذه الهواية، خصوصا أنها تحدث بدون استئذان أصحاب هذه الصفحات والمشاركين فيها، حتى جاء يوم قابلت من يؤكد لى أن زياراتى ليست سرا خالصا، ويؤكد حقائق أخرى لم ألتفت إليها من قبل. عرفت مثلا أن «التجسس» على صفحات الفيسبوك والتويتر وغيرهما من أدوات الاتصال الإجتماعى، لا يعتبر بالضرورة عملا شريرا أو منافيا للأخلاق خاصة أن علماء الاجتماع صاروا يعتبرون هذا التجسس من صميم البحث العلمى، ويعتبرون نتائجه إضافة علمية تقع تحت عنوان Ethnography أى الانثروبولوجيا الوصفية. فهمت أيضا أنه لا يختلف كثيرا عن وظائف الاستماع إلى الروايات الشعبية التى ترددها الشعوب، فضلا عن أنه يقدم صورة واقعية ومتجددة تحتوى على تفاصيل الحياة اليومية لقطاع أو آخر من السكان. كان هذا بعضا من كثير فهمته من تعليقات علماء اجتماع وانثروبولوجيا. كذلك كان لأساتذة الإعلام وبخاصة العاملين فى حقل الصحف رأى لا يقل إشادة بعملية التجسس على صفحات الفيسبوكيين والمدونين والمغردين. قال بعضهم عن هذه الهواية التى خجلت من الاعتراف بممارستها إنها شكل حديث من أشكال تقصى الأخبار، وهى المهمة التى يقوم بها المخبرون الصحفيون من أجل إثراء تقاريرهم الصحفية.وفى نهاية الجلسة أراد أحد الجلساء التهوين من شعور الذنب فوصف ما أقوم به بأنه نوع من الانتباه المحمود والرغبة فى تعميق الصلة بقطاع هام من قطاعات المجتمع.
•••
عادت السيرة فانفتحت مرة أخرى عندما طرحت ملاحظتى على سلوك عدد من الشباب فى سن المراهقة الذين كادوا يدمنون استخدام أدوات التواصل الاجتماعى، وبخاصة الفيسبوك والهاتف النقال والتويتر. كنت قد لاحظت منذ فترة ما بدا لى ولغيرى، وفيهم مسئولون عن إدارة أقسام التحرير فى صحف كبيرة وفيهم أيضا أساتذة جامعات، بدا لنا أن هؤلاء الشباب ربما «فقدوا النفس الطويل فى الكتابة». بل وجدت أن بعضهم لم يعد يقدر على الاشتراك فى مناقشة شفوية طويلة نسبيا. كثيرون الذين انتابهم القلق وتعددت تساؤلاتهم: أهو الحياء الناتج عن قلة الإطلاع ونقص المعرفة، أم هو طبيعة ثانية «تخلقت» لدى بعض المدمنين على الفيسبوك وغيره من وسائل التواصل سريعة الإيقاع.
•••
اكتشفنا خلال النقاش أن الموضوع صار يحظى فعلا باهتمام الحريصين على مستقبل أمتهم، وأن مسئولين كبارا فى حكومات عديدة بدأوا يحذرون من عواقب هذا التطور. ففى إنجلترا مثلا دعا وزير التعليم فى حكومة الظل إلى ضرورة الاهتمام بتفاقم ظاهرة «ضعف التركيز» المتزايد لدى أطفال المدارس والشباب فى سن المراهقة. وفى الولايات المتحدة تعقد ورش العمل فى جامعات عديدة لمناقشة أبعاد الظاهرة وأثرها على جودة العملية التعليمية. وفى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تستعد الأستاذة Turkle لإصدار كتابها الجديد تحت عنوان «استعادة فن الحديث». وفى أماكن كثيرة، وبخاصة فى الدول النامية والمتعثرة على حد سواء، اتضح أن اللغة التى يستخدمها صغار السن أضعف كثيرا من اللغة التى استخدمها أقرانهم قبل عشرين أو ثلاثين عاما. تقلصت القدرة على الإطناب، أو على الأقل، الإفاضة فى الشرح والوصف عند الكتابة فى مختلف الموضوعات، وانخفض بشدة عدد المفردات التى يتعامل بها الشباب. هذه الصفات المستجدة وغيرها صارت تؤثر على أحاديث الناس وحواراتهم ومداولاتهم.
•••
يسود اعتقاد بين المتخصصين بأن التعود على مناقشة الأمور بإيجاز شديد، وفى غيبة ملاحظة أو رقابة من طرف ثالث، يضعف قدرة ولعله يطفئ رغبة مستخدمى أدوات التواصل الاجتماعى فى الاشتراك فى حديث مفتوح وعلنى. الأمر الذى يؤدى إن آجلا أو عاجلا إلى فقدان القدرة على التركيز، بل وربما إلى إضعاف ملكة الانتباه. فالإنسان حين يتعود على خطاب «متقطع»، كتابات غير موصولة، وأفكار غير خاضعة لتفكير متأن أو رقابة ذاتية، وكلها من علامات التواصل الاجتماعى بأدواته الحديثة، ينتهى طرفا غير مؤثر وربما غير فاعل فى محادثة مفتوحة مع طرف آخر أو أطراف متعددين.
•••
الواضح، كما تقول الأستاذة الأمريكية «تيركيل» إننا نتكلم أكثر مما نتحدث. الكلام لا يحتاج إلى تركيز وانتباه بينما كلاهما من شروط الدخول طرفا فى حديث. كلاهما لا يمكن أن يتوافرا إذا اهتم أغلب المشاركين فى مؤتمر أو دائرة حوار بالاستجابة إلى نداء هواتفهم المحمولة أو مراجعة صفحات الآيباد المفتوح أمام كل منهم.
لا شىء أجدى لنضوج الشباب من اعتياده المشاركة فى أحاديث مفتوحة ومتعددة الأطراف. كم يكون مفيدا العودة إلى الاستفادة من المساحات أو المواقع المقدسة فى حياتنا، وبخاصة مائدة الطعام التى صارت فى بيوتنا الحديثة كالزوائد التى لا تستفيد منها العائلة، والمقهى الخالى من الإنترنت والمحرم فيه اصطحاب الكمبيوتر والهواتف المحمولة. ومن هذه المواقع المقدسة فراش النوم حيث كانت أحاديث قبل النوم من العادات المحمودة، سواء تلك التى كان يمارسها الأب والأم مع طفليهما، أو يمارسونها معا.