اختفت د. نائلة عمارة من شاشات التليفزيون فى ظروف لا تقل غموضا عن ظروف ظهورها، رغم الخدمات التى قدمها برنامجها «حزب الكنبة» لصناعة الأثاث. اختفت المذيعة دونما أثر باستثناء ومضة عابرة فى حوار شاركت فى إجرائه مع المرشح الرئاسى عبدالفتاح السيسى منذ أكثر من عام. ومضة لمعت فى سؤال «عفوى» وإجابة «تلقائية» يتذكرها كل من تابعوا الحوار:
< يعنى إيه كلمة وطن؟
ــ وطن يعنى حضن!
كانت هذه الإجابة ربما، ترجمة لبيان ٣٠ يونيو، الذى أعلن فيه الجيش أن «هذا الشعب قد عانى ولم يجد من يرفق به أو يحنو عليه» وهو ما يلقى «بعبء نفسى على القوات المسلحة».
بعدها، فتح الوطن ذراعيه ليخفف العبء النفسى، فاحتضن مبارك وولديه بعد أن احتضن قبلهما سوزان التى غابت فى حضنه فلم يسمع عنها أو بها أحد منذ قامت ثورة يناير. كما احتضن أحمد عز، وحبيب العادلى وغيرهم كثيرون.
ولكن الوطن الكريم بأحضانه أحيانا، كان ضنينا على 269 مصريا وثقت حالاتهم المفوضية المصرية للحقوق والحريات، التى أعلنت أمس الأول أنهم حصيلة القتلى فى أماكن الاحتجاز على مدى عامين منذ الثلاثين من يونيو عام 2013. قتل هؤلاء فى «الحجز» فى أقسام الشرطة، بالرصاص، أو الغاز، أو بالإهمال الطبى.
لم يكن الوطن حضنا للعشرات من الضحايا الذين وثق حالاتهم مركز النديم لمكافحة التعذيب، ولا للمواطن المسكين الذى كتبت الصحف أن ضابطا صعقه بالكهرباء فى مؤخرته، رغم أنه، أى الوطن، كان حضنا للضابط الذى تمت ترقيته إلى منصب مأمور بعد الحادث (مع خصم شهر من مرتبه!).
ضاق الحضن عن البائع المتجول الذى انتشر مقطع فيديو له وهو يحاول أن يدافع عن رزقه ويتشبث بالعربة التى يتجول بها، فيما أوسعه المخبرون ضربا وإهانة وهم يحطمون مصدر رزقه الوحيد.
لم يتسع الحضن للطالب بيتر جلال الذى بدأ يفقد نور عينيه داخل السجن فيما تصم الداخلية الآذان عن نداءات المطالبين بعلاجه والتى تعالت حتى وجدت طريقها إلى مقال كتبه شريف أسعد مخاطبا الرئيس السيسى، دون سامع أو مجيب.
لم يكن الوطن أيضا حضنا للشاب محمود حسين الذى لم يتجاوز عمره تسعة عشر عاما قضى نحو عامين منها فى السجون، عانى خلالها من التعذيب، لا لشىء إلا لأنه جرؤ على ارتداء تى شيرت يحمل عبارة «وطن بلا تعذيب».
كما لم يكن حضنا للمصور الصحفى شوكان الذى قاربت مدة احتجازه عامين دون جرم واضح سوى ممارسته لوظيفته. ورغم التدهور المطرد فى حالته الصحية، ورغم النداءات المتكررة من نقابة الصحفيين، لا يبدو أن هناك رغبة فى أن يتسع حضن الوطن له أو لغيره من المظلومين الذين أعد الكاتب الصحفى محمد فتحى قائمة بهم وسلمها بنفسه للرئيس منذ شهور.
«كان لازم نقبض على ناس علشان الباقيين يعيشوا». هذا ما قاله الرئيس فى إفطاره مع الشعب مبررا سجن سناء سيف، وماهينور، ويارا، وعلاء ودومة، وماهر وأكثر من أربعين ألفا غابوا خلف قضبان السجون من أجل أن يعيش أولئك الذين ثار ضدهم الشعب، وقرر الوطن احتضانهم فى المنتجعات والكومباوندات وعلى شاشات الفضائيات.
لو قدر للزمن أن يعود ولنائلة عمارة أن تكرر سؤالها: يعنى إيه كلمة وطن، فربما تكون الإجابة الأدق:
ــ وطن يعنى حزن.
رمضانكم كريم، ورمضانهم فى السجون.