ننسى أحيانا أن حكام أوروبا أنشبوا فى القارة على امتداد قرون حروبا لم تنشب مثلها عددا وخرابا فى قارة أخرى، وأن هؤلاء الأباطرة والقياصرة والعسكريين الارستوقراطيين هم الذين بحروبهم هذه صنعوا لأوروبا أطول سلام فى تاريخ القارة. ننسى لأننا ربما ما زلنا، أو كنا إلى عهد قريب جدا، منبهرين بالانجازات التى تحققت بفضل دعاة الاندماج الأوروبى منذ أن قامت جماعة الحديد والصلب، وبعدها السوق الأوروبية المشتركة التى تطورت إلى اتحاد أوروبى ومنطقة عملة موحدة. كان عجزنا عن الانتقال بأفكار ونظريات التكامل الاقتصادى إلى حيز التطبيق السبب فى انبهارنا بنجاح التجربة الأوروبية، وزاد انبهارنا بتلاحق الفشل بعد الفشل فى استعادة الأمل، ولو نظريا كما كان، فى جهود إنعاش فكر التكامل العربى ولو فى قطاع واحد من قطاعات العمل العربى المشترك.
الانبهار بأوروبا الموحدة مستمر لدى القطاع الأعظم فى النخبة المثقفة العربية، ولكنه غير موجود بالدرجة نفسها، وفى الغالب غير موجود بالمرة، لدى القطاع الأعظم فى النخبة الحاكمة العربية، لا لشىء سوى أن الأمر يثير مقارنات غير مستحبة مثل التنازل عن جزء ولو ضئيل من السيادة لعرب آخرين، وربما لأن الثقافة السياسية الحاكمة فى العالم العربى ترتاح فى علاقاتها الدولية إلى التعامل مع الدول منفردة، والأفضل أفرادا منفردين مثل الحكام مطلقى الصلاحيات، عن التعامل مع تكتلات أو اتحادات دولية. أما انبهار المفكرين والمثقفين وغيرهم من الفئات الساعية للتنوير وغيرهم من حملة مشاعل التقدم على أمل أن يفلح مشعل منها فى إزالة العتمة الحضارية، التى نعيش فى ظلها ونشر التفاؤل بالمستقبل فى جميع الأنحاء اعتمادا على العلم والمعرفة، فهو انبهار بكفاءة الأوروبيين فى الاستفادة من تحولات النظام الدولى لإعادة بناء اقتصاداتهم، ثم كفاءة الاقتراب المتدرج من الولايات المتحدة مع كل صعود فى القوة السوفييتية، وأخيرا الابتعاد المتدرج عن الولايات المتحدة مع كل زيادة متدرجة من جانب واشنطن لجر دول أوروبا إلى المشاركة فى حروب خارجية لا تخصها مرة فى أفغانستان ومرة فى العراق ومرة فى ليبيا، وهى المرة التى كشفت عن المدى، الذى وصل إليه الأوروبيون فى الاتجاه نحو التخلى المتدرج عن المنظومة العسكرية التى تصدرها الولايات المتحدة.
●●●
ولكن لا يجوز أن ننكر أن انبهارنا الطويل بأوروبا وسياساتها الوحدوية أخفى عنا حقائق أوروبية عديدة كان الظن أن الاندماج الاقتصادى والوحدة النقدية ساهمتا فى تحسينها أو إصلاحها. إن الذين يعرفون أوروبا، بحكم طول العيش فيها أو متابعة شئونها وأخبار تقدمها الثقافى والعلمى، يدركون أكثر من غيرهم أن ما يفصل بين سلوكيات وثقافة شعب أوروبى عن سلوكيات وثقافة شعب أوروبى آخر أوسع كثيرا مما يتخيله أو يتصوره من يعرف أوروبا عن بعد، أى من لم يعش فيها ويختلط بأهلها. ندرك الآن أن جشع الحكام فى القرون الماضية لم يكن وحده الدافع للحرب الدموية، التى دمرت القارة أكثر من مرة، كان هناك أيضا اختلاف الأمزجة والسلوكيات بين الشعوب. ولن نذهب بعيدا بحثا عن أمثلة، فالمثال الأبرز والمتكرر هو الاختلاف «الثقافى» الشديد بين الألمان والفرنسيين، والتاريخ الطويل من عدم الاستلطاف المتبادل بين الإنجليز والفرنسيين، والسلوكيات «العنصرية» التى لازمت العلاقة بين الإيطاليين والألمان منذ أقدم الأزمنة.
كان أمل الكثيرين فى أوروبا، أن يؤدى الاندماج الأوروبى والوحدة الاقتصادية إلى إزالة هذه «الفوارق» وغيرها من المخلفات الثقافية الموروثة من عهد تقديس الدولة القومية، بل عهود قبلها كالعصر الإقطاعى ثم عصر الصراعات الامبراطورية، إلى أن تحققت مخاوف خصوم عصر «العولمة»، هؤلاء المتشككون الذين راقبوا مسيرتها بحذر شديد أو شك عظيم. فالعولمة، والاندماج الأوروبى، كما نعرف هو أحد أهم علاماتها وكذلك تقدم وسائل الاتصال الاجتماعى، مسئولة بشكل مباشر عن ظاهرة اقتراب الأفراد من بعضهم البعض بل وكثافة اختلاط الشعوب والجماعات الانسانية كافة. هذا التقارب نفسه هو أحد الأسباب المباشرة فى أن مسألة القيم صارت تحظى بموقع تتقدم فيه العلاقات بين الشركات وبعضها البعض وبين موظفى الشركة الواحدة وبين الشعوب وبعضها البعض وبين الأقوام والطوائف داخل الشعب الواحد فى الدولة الواحدة. صارت القيم «الجمعية» مسألة مهمة.
بمعنى آخر لم يعد الفرد، كالعهد به فى أزمنة سابقة، يتصرف بوازع فردى بقدر ما أصبحت تصرفاته تعكس «ثقافة» أو رؤية أو ولاءات جماعية، يريد بها أن يؤكد تميزه عن الآخر.
نقرأ منذ شهور عن تصريحات تكرر وصفها بأنها «متعالية» تصدر عن سياسيين وإعلامييين ومواطنين عاديين فى ألمانيا تعقيبا على الأزمة المالية اليونانية، الدولتان مندمجتان فى اتحاد أوروبى وشعباهما صارتا تجمعهما قوانين وإجراءات صادرة من جهة واحدة هى المفوضية الأوروبية، إلا أنهما وربما لهذا السبب نفسه صار سلوك كل منهما وتصرفاته محل انتباه ومراقبة الطرف الآخر. يقارن توماس فريدمان الكاتب بصحيفة نيويورك تايمز إن الخلافات الناشبة بين دولتين أو مجتمعين فى الاتحاد الأوروبى تشبه الخلافات الناشبة بين مطلقين كانا إلى عهد قريب جدا زوجين، ويسأل السؤال التقليدى، إن كانا على هذا النحو من الاختلاف والخلاف فلماذا تزوجا أصلا؟
●●●
أعود من أوروبا واندماجاتها وبوادر انفكاكات ومؤشرات متزايدة عن احتمال تدهور تصرفات بعض الأوروبيين ضد أوروبيين آخرين إلى عالمنا العربى واندماجاته وبوادر ارتفاع فى منسوب انفكاكاته وتدهور سلوكيات بعض العرب ضد عرب آخرين. لا يخالجنى شك فى أن كثيرا مما ورد فى السطور السابقة عن أوروبا يكاد ينطبق انطباقا مثاليا على عالمنا العربى باستثناء مسألة الحروب العديدة، التى شهدتها أوروبا عبر القرون. فالعرب لم يدخلوا فيما بينهم حروبا على هذا المستوى أو بهذه الكثافة. اشتبكوا فى خلافات ونزاعات من كل نوع، وربما أكثر من أى أمة أخرى.
ولكنهم كانوا من أوائل الامم التى فكرت فى تحقيق تكامل اقتصادى وتعاون عسكرى، ولا شك أنهم كانوا فى وضع يسمح لتكاملهم بأن يتواصل ويتدعم لولا أن ثقافتهم بدأت تتفكك إلى ثقافات «محلية» تزعم كل منها تميزها عن الأخريات.
التفاوت الثقافى فى النظام العربى ظاهرة لها أسبابها الخاصة إلى جانب الأسباب، التى يناقشها المفكرون الأوروبيون المهتمون بظاهرة التفاوت الثقافى فى النظام الأوروبى. هناك العولمة واقتراب الشعوب المتزايد من بعضها البعض، ولكن الأهم فى الحالتين العربية والأوروبية هو اتساع الفجوة بين الدول ذات الوفرة المالية والدول ذات العوز المالى. إذ إنه حين تبدأ الدولة الغنية فى تقديم العون أو حين يزداد عطاؤها سخاءا لسبب أو لآخر فإنها تتوقع من الدولة الأخرى المستقبلة للعون والقروض أن تتبنى سلوكياتها ومنظومة قيمها، ألمانيا مثلا تتوقع من اليونان تغيير سلوكيات شعبها ومنظومة القيم والأعراف اليونانية ليصبح الشعب اليونانى أكثر إنتاجية وإقبالا على العمل وأشد حرصا على الإدخار واقل استخداما لوقت الراحة والترفيه.
وأظن أننى لا أبالغ إن عبرت بوضوح عن مستور نتحرج من مناقشته، لأقول إنه فى عالمنا العربى صار أمرا مطلوبا وبإلحاح أكثر من أى مرحلة سابقة فى مراحل تطور النظام الإقليمى العربى أن تبدى الدول والجهات والمؤسسات المتلقية للمعونات والمنح استعدادا أكبر لتغيير أساليب الحكم فيها وتعديل محتوى ما تنتجه من فنون كالسينما والغناء وتطوير سلوكيات شعبها وقيمه لتصبح أكثر شبها، إن لم تتطابق، مع أساليب الدول العربية المانحة وسلوكيات شعبها وأمزجته ومنظومة قيمة.
●●●
أكاد أصل إلى نتيجة، أرجو أن أكون مخطئا فى مقدماتها، خلاصتها أن الاندماج العربى فى ظل الأوضاع الاقتصادية والسياسية الراهنة فى النظام العربى سيكون أصعب منالا. ستزداد فى رأيى وتيرة الانفكاك وتتسع مساحات التفاوت الثقافى بالمعنى الذى ذهبت إليه فى هذا المقال، ولكن يبقى علينا واجب إعادة قراءة الخريطة الثقافية العربية على ضوء الصراعات الناشبة حاليا فى ميادين الثورات وبخاصة تلك الناشبة بين ثقافات بعينها.