لا أحد عاقلا يحسد الرئيس باراك أوباما على حالته الراهنة. فقد حان يوم الحساب الأول، يوم يقوم الشعب الأمريكى بإصدار حكمه على كفاءة حكومة أوباما وقدرتها على حل مشكلات الأمة. كذلك سنحت الفرصة لأوباما ليقوم بنفسه بتقويم سياساته وبرامجه التى كان يحلم بتنفيذها، وهى السياسات والبرامج التى نجح خلال حملته الانتخابية فى إقناع نسبة كبيرة من الناخبين الأمريكيين أنها هى التى حملته إلى منصب رئاسة الجمهورية.
أكاد أجزم أن الرئيس الأمريكى غير سعيد وهو ينتظر حصيلة يوم الحساب الأول، وغير متحمس لإجراء تقويم لما التزم بتنفيذه فى حملته الانتخابية قبل عامين، أو لإعادة النظر فيها فيستغنى عن بعضها ويغير فى البعض الآخر، سواء تعلق هذا البعض أو ذاك بالأوضاع الداخلية أو الأوضاع الدولية، يصعب على مراقب مثلنا يتابع أوباما وإنجازاته عن بعد أن نتفاءل بعامين مريحين للرئيس أوباما.
قد يكون ضروريا الاستناد إلى استطلاعات الرأى لمعرفة تطور مزاج الرأى العام الأمريكى فى هذه الساعات الحرجة، علما بأن أغلبها لا يحفز أنصار أوباما على الاطمئنان. وقد يكون مهما أيضا الاهتمام بحالات النزوح بين كبار موظفى البيت الأبيض إلى وظائف ومناصب خارج دائرة الحكومة الفيدرالية وأسباب هذا النزوح وغرابة توقيتاته. ولا أظن أن حصيلة الاهتمام بهذه الموضوعات تغير من الشعور بنقص التفاؤل بالنسبة لمستقبل أوباما فى الحكم، ففى مثل هذه الحالات تتراوح ردود الفعل لدى المواطنين بين الشك فى أن يكون النزوح بسبب اقتناع النازحين بأن «سفينة أوباما تغرق»، وبأنه من الأسلم أن يبحث النازح عن وظيفة أخرى، وبين الظن فى أن يكون الرئيس قد أنهى بالفعل عملية تقويم سياسته خلال العامين وقرر الاستغناء عن بعض كبار مساعديه أو تشجيع نواياهم للنزوح.
أضف إلى الاستطلاعات ونزوح المساعدين الكبار حقيقة واقعة وراسخة وهى أنه على الرغم من الجهود التى بذلها أوباما ومساعدوه الاقتصاديون للحد من عواقب الأزمة المالية التى ضربت بلاده قبل أن يتسلم الحكم واستمرت معه، فإن خطة الإنعاش الاقتصادى وإعادة الاقتصاد الأمريكى إلى نشاطه المعتاد لم تحقق أهدافها، أو بحسب تعبير كبار الاقتصاديين مثل جوزيف ستيجليتز وكروجمان ووزير العمل الأسبق روبرت رايش، ما زال الإنعاش فى طور بالغ الضعف.
وهى صورة لا تختلف كثيرا عن صورة الاقتصادات الأوروبية كافة، من اليونان والمجر ورومانيا شرقا إلى أيرلندا والبرتغال وإسبانيا وبريطانيا وفرنسا غربا. ويبدو أن الأزمة كشفت عن عيوب كثيرة تراكمت فى اقتصادات دول الغرب، بما فيها اقتصاد أمريكا، مما دفع معظم الدول، باستثناء الولايات المتحدة، إلى انتهاج سياسات تقشف يخشى أن تودى قريبا بالاستقرار السياسى فى عدد من تلك الدول.
وحين تستثنى التحليلات الاقتصادية الولايات المتحدة من حملة التقشف، فإن أغلبها لا يفوته أن الشعب الأمريكى ذاته لم ينتظر إجراءات حكومية ليتقشف، إذ يردد معظم الأمريكيين القول أنهم توقفوا تقريبا عن التوسع فى شراء ما لا يلزم حتما وللضرورة وأنهم يقومون بتسديد ديونهم التى اكتشفوا فجأة أنها أضخم مما كانوا يقدرون. بمعنى آخر يعترف الأمريكيون أنهم أساءوا التصرف حين تركوا المصارف وبيوت الرهن والقروض تغرقهم بتدفقات لانهائية من القروض والتسهيلات، فكانت هذه التدفقات السبب المباشر فى أزمة 2007 وهى الآن السبب المباشر فى أن يسود مزاج الغضب والقلق ويشعر المواطن الأمريكى «لأول مرة» فى تاريخه بالخوف من المستقبل.
فى هذا السياق الذى لا يشجع الشعب الأمريكى على الثقة بالمستقبل، تظهر ملامح سلوكيات «ديمقراطية» تبدو للوهلة الأولى غير مألوفة، ولكنها تضيف جرعة أخرى من القلق والتوتر إلى المزاج السائد لدى غالبية الشعب الأمريكى. يتحدثون فى الإعلام الأمريكى عن ثلاثة أشخاص لا يخفون كراهيتهم وعداءهم الشديد للرئيس أوباما ويخصصون علنا وجهارا أموالا طائلة لمحاربته وتشويه صورته، هؤلاء الثلاثة هم روبرت ميردوخ والشقيقان كوش، ويتردد بصوت خفيض أن الثلاثة يحاربون أوباما لأنه كان، دون أن يدرى، أحد أسباب تصعيد النقاش فى أمريكا عن دور اليهود فى صنع السياسة والقرار السياسى الخارجى فى الولايات المتحدة.
ويتردد بصوت عال أن الثلاثة قرروا النهوض بمهمة إشعال «انتفاضة شعبية يمينية» ضد ما يطلقون عليه «اشتراكية» أوباما ومشروعاته الاجتماعية وزيادة التدخل الحكومى فى شئون الاقتصاد، وأنهم يتزعمون حركة حفل الشاى المناهضة لكل أفكار أوباما والليبراليين الأمريكيين، وأنهم نجحوا فى حشد المواطنين الأمريكيين ذوى الميول المحافظة من بين الفقراء وأبناء الطبقة الوسطى وحثهم على التبرع لغرفة التجارة الأمريكية والحزب الجمهورى تحت شعار «فلنجعل الأثرياء أكثر ثراء»، ولعلها المرة الأولى فى تاريخ تطور الشعوب، أن يشعل الفقراء انتفاضة شعبية لزيادة دخل الأغنياء.
قد لا يعرف الكثيرون أن أعضاء مجلس إدارة غرفة التجارة الأمريكية الذين حملوا على عاتقهم مسئولية إضعاف حكومة أوباما ومطاردته يمثلون الشركات الأقوى والأغنى فى الاقتصاد الأمريكى، مثل لوكهيد للطائرات والصواريخ وكونوكو فيليبس للنفط وفايزر للأدوية وداو للكيماويات ومرجان تشيس. ويبدو مفيدا على كل حال العودة عامين إلى الوراء حين خصص أوباما أموالا طائلة لإنقاذ أغنياء أمريكا من الإفلاس واستدان ليخرج الشركات المالية والصناعية مثل شركات صناعة السيارات من ورطتها، وهى ترد له الجميل فى الوقت الذى تعلن جميع التقارير أن المواطن الأمريكى العادى يمر بفترة هى الأسوأ ليس فقط لأنه لا يريد أن يدخر أو يستثمر، ولكن أيضا لأنه لا يرى أملا كبيرا فى المستقبل.
نعرف أن كثيرا من غير الأمريكيين الذين انتظروا خيرا وسلاما للعالم على أيدى أوباما يتمنون لو حقق إنجازات خارجية خلال العامين الماضيين تبرر حماستهم له وتجدد آمالهم فيه.. أما وأن الرجل حصل على حكم بالفشل فى استطلاعات الرأى العام على سياساته الداخلية ويحصل على خيبة أمل معظم الأطراف الخارجية نتيجة سياساته المتعثرة فى أنحاء عديدة من العالم، فهذا ما لم يكن يتوقعه إلا القليلون قبل عامين.
نراه وقد سمح لنفسه وللديمقراطيين بالاستمرار فى تنفيذ سياسات بوش فى العراق وأفغانستان.. عامان ومازالت العراق حتى ساعة كتابة هذه السطور بدون حكومة ومازال أكثر من خمسين ألف جندى نظامى أمريكى فى العراق ومعهم عشرات الألوف من المرتزقة المسلحين يشتغلون لحساب شركات ثبت قطعا أنها تقوم بارتكاب فظائع ضد المدنيين وضد أموال دافع الضرائب الأمريكى.
صحيح أن أوباما ورث أفغانستان ساحة لحرب بوش الأولى، ولكن فى عهده توسعت الساحة فصار معظم القتال وأكثر الضحايا فى باكستان. وفى الحالتين، العراق وأفغانستان، وبعد ما يقرب من عشر سنوات من الحرب المتواصلة يسعى أوباما إلى استرضاء «إيران» جانبا ليحصل على معاملة خاصة فى كل من العراق وأفغانستان، واسترضاء سوريا والضغط على السعودية ودول الخليج ليحصل على دعم منها لوضع سياسى جديد فى العراق. المؤكد أن السياسة الخارجية الأمريكية فى هاتين الدولتين صارت أقرب ما يكون إلى عدد من صور متناثرة تكشف عن سوء تنظيم أو سذاجة أو خلافات بين جناحى السلطة فى واشنطن، أو كليهما معا.
أما فى الشرق الأوسط، وبمعنى أشد وضوحا، فى الصراع العربى الإسرائيلى، فهناك ما يجب أن يقال وبصراحة: لقد كان فشل أوباما فى هذا الموضوع صارخا ووضع مكانة أمريكا ومؤسساتها المعنية بصنع السياسة الخارجية فى مكانة غير لائقة. لقد ورط أوباما نفسه وبلده والعرب أجمعين فى التزامات ومواقف قبل أن يستعد بأدوات ضغط ونفوذ مناسبة. جعلنا، نحن صناع الرأى وأعضاء النخب السياسية ومسئولين من تركيا شمالا إلى السودان واليمن جنوبا، نسأل سؤالا واحدا: ما قيمة أمريكا؟.