يوم الخميس قالت مُنى: «عندي إحساس ان المرة دي هيطلع؛ أول مرة يبقى عندي الإحساس ده.»
ويوم الأحد طلع علاء فعلا. وجاب معاه طمأنينة لأهله، وفرحة لكل الناس - وهم كثيرون جدا - اللذين كانوا يدعون له ويتمنون له الخير ويستوقفوننا في الشوارع ليدعمونا بالمشاعر ويقدمون لنا كلمات التشجيع، وجاب أيضا أمل لبقية المسجونين ظلما كلهم.
هناك أسئلة الكل يطرحها منذ بدء «تيمة علاء» في دراما الثورة المصرية؛ أسئلة مثل: لماذا يرمونه باتهامات من الضخامة والعبثية التي تسهل تفنيدها؟ لماذا يشهد البعض بالزور الواضح؟ لماذا يحتجزونه على ذمة التحقيق وهو الذي مثل أمامهم بإرادته ليرسم ويسجل موقفا؟ لا نجد إجابة - أو لا نجد أكثر من التكهنات والاجتهادات التي هي عند الجميع.
لكن هناك تأويلا لقصة علاء عبد الفتاح كـ»تيمة» (أو موضوع) في إطار قصة الثورة المصرية، وهو التأويل الذي يفسر لماذا وضعه العسكر في دماغهم، ولماذا وضعه الناس في قلوبهم، فكان خروجه من الحبس يوم الأحد - كما كان مولد ابنه، خالد، من قبل، مدعاة فرح واستبشار.
أومن تماما بأننا نعيش صراعا حياً مُركَّزاً بين الخير والشر، وأن مصر، وهي - بمعنى ما - روح العالم، قامت ثورتها لأن كفة الشر كانت قد رجحت في البلاد لدرجة خلخلت موازين الكون، فقام المصريون في ٢٥ يناير ليصلحوا الخلل ويعيدوا ضبط الموازين، ومن هنا كان إحساسنا بتجسد الخير في ميدان التحرير وميادين مصر، ومن هنا كان انجذاب شعوب العالم لثورتنا واستلهامهم لها في مشارق الأرض ومغاربها حتى اليوم، ومن هنا كانت تلك الروح الربانية التي لمسناها جميعا في الأيام الثمانية عشر فقلنا «الثورة دي فيها شئ لله». كنا نعمل جميعا على ترجيح كفة الخير، وأدركنا، بتلقائية تامة، ان الخير يكمن في قلوبنا وعيوننا وأيادينا، فمددنا أيادينا بما تحمل، وبششنا في الوجوه، وتآخينا، وطلبنا الخير لنا وللآخرين وللوطن وللكوكب والكون، فصارت كل ابتسامة، وكل رشفة مياة، وكل انحناءة لالتقاط كيس نايلون أو عقب سيجارة من الأرض هي بتلة نضعها في كفة الخير في ذلك الميزان الكوني الذي حط على أرض الكنانة. وكان عطاء شهدائنا، وقيل «الورد اللي فتح في الجناين»، هو أثمن ما وُضِع في الميزان وأكثر ما رجح كفة الخير فيه.
وفي هذه الرؤية، وتفسيرا للمساندة الهائلة التي وجدها علاء وأسرته في الشارع، نرى أنه يتمتع بالصفات التي تجعل منه تجسيدا للبطل المصري المدافع عن الخير؛ فهو نبت والدين معروفين مناضلين محبوبين، وله زوجة حبيبة زميلة (أيضا نبت والدين معروفين مناضلين محبوبين) كانت تحمل ابنهما ووضعته وهو في الحبس الظالم، وله أختين مناضلتين والمحبة بين الثلاثة واضحة للكل.
أول علاقته بالنشاط السياسي كان نزوله في مظاهرات ٢٠٠٥ لحماية أمه، ثم انخرط في ذلك النشاط فتبنى دعم ومساندة القضاء المصري في وقفته ضد الظلم والتزوير.
وحين سجنه النظام وقتها خرج من السجن متفتحا مكونا صداقات وزمالات عابرة للإيديولوجيات وآخذة قاسمها المشترك من حب الوطن. سافر إلى خارج البلاد بحثا عن الرزق والتحقق المهني وعاد حين قامت الثورة؛ آمن بها هو وزوجته لدرجة أن تركا الوظيفة في الخارج وبدءا في تكوين أسرة في مصر. وكان دوره في الثورة مجَمِّعا مبدعا مُمَكِّنا محرضا مُصالِحاً: رأيناه في تويت ندوة، وفي تعالوا نكتب دستورنا، ثم في أحداث ماسبيرو - ثم اتضح أنه أيضا صاحب قلم. وكأن الله أراد أن يجسد في هذا الشاب توليفة من السمات المستحبة والقيم المصرية، من «الأسَرِيَّة» إلى الغيرية والوطنية إلى التفتح والابتكار والبلاغة وحب العدل - تجعله قادرا على التأثير في ميزان الخير والشر تأثيرا كبيرا.
والظَرف الذي نعيشه ظرف مُرَكَّز، متبلور: نرى فيه ميزان الخير والشر معلقا أمام عيوننا؛ فيجد كل فعل، وتجد كل كلمة، مكانها في إحدى كفتيه. الخيار بين الخير والشر مطروح أمام كل فرد، والفرد هنا مسؤول عن اختياره، فنحن نعيش ظرفا لا يشفع لنا فيه الانصياع لموقف مؤسسي، أو التضامن مع موقف أسري أو حزبي أو عقائدي: الخير بَيِّن، والشر بَيِّن، والاختيارات واضحة.
وباب الاختيار مفتوح حتى النهاية: الاختيار أمامنا في كل لحظة من النهار منذ أن نصحو إلى أن ننام، وهو حاضر في الأفعال الكبيرة والصغيرة على السواء.
كان أمام المجلس الأعلى للقوات المسلحة فرصة قَدَرية ليؤَمِّن سلامة البلاد، ويحقن دماء أبنائها، ويخط صفحة جديدة ناصعة في تاريخ العسكرية المصرية، ويصون شرف القوات المسلحة، ويقوي أواصر المحبة الرابطة بين الشعب وجيشه - أي كان أمامه أن يقوم بالفعل الذي يرجح كفة الخير تماما ويُطْلِق قواه من إبداع وتآخي وبناء. وقد اختار المجلس عكس ذلك: اختار أن يخون الثورة التي أعلن الإيمان بها وتعهد بحمايتها، وأن يعمل على استمرار النظام المخلوع - مع إدخال بعض الرتوشات عليه من باب الخديعة. وبالطبع فقد وَرَّطَه هذا الاختيار في آلاف الاختيارات الأخرى؛ شبكة من الاختيارات يتفرع بعضها من بعض: فاختار الكذب، واختار أن يبث الفرقة بين الأخوة، وأن يحاول إشعال الفتنة بأنواعها، وترتب على هذا طيف واسع من الأعمال والنتائج التي تجد طريقها عمياني إلى كفة الشر: فلطخ أيدى بعض جنود مصر بدماء إخوانهم، وجعلهم يهتكون عرض أخواتهم، وحَوَّلهم إلى ميليشيات احتلال أثرت على سمعة المؤسسة العسكرية. قَتَل مواطنينا عمدا، ولم يعمل حرمة لمؤسساتنا من أول المتحف المصري إلى البرلمان إلى جامع عمر مكرم وكنيسة قصر الدوبارة. لم يسمح بعودة الأمن إلى البلاد، فأضر بأهلها واقتصادها، وحاول ويحاول أن يلصق الآثار السلبية لاختياراته بالثورة والثوار.
ومن أكثر ما سمعت جرحا للمشاعر إن البنات والشباب، بعد أن ضربوهم في مبنى مجلس الشعب، عرضوا عليهم المساعدة الطبية! ويصدر الله دائما أهل الشجاعة، فنجد هند بدوي ترفض عيادة المشير حسين طنطاوي لها، وتطرده من عنبرها بالمستشفى، وهي بهذا ترفض الرياء وترفض أن تُستَخدم لتجميل قبح المجلس العسكري أو للتغطية على أفعاله الدموية.
كل واحد من هؤلاء الشباب أيقونة أو رمز - كل بطريقته، كل بما أتيح له: خالد سعيد، مهاب علي حسن، مينا دانيال، عصام عطا، محمد مصطفى، باستشهادهم. مالك، أحمد حرارة، بعيونهم. هند بدوي، علاء عبد الفتاح، أحمد عبد الرحيم، بمواقفهم. فتاة البلوجينز، حين قررت - ومعها كل الحق - أن تحجب هويتها عن الإعلام، ففتحت الطريق أمام صورتها - فاقدة الوعي، معراة، يسحلها العسكر في الميدان ويهم أحدهم بركل صدرها العاري بقدمه - لتصبح صورة تُعَبِّر عن «حالة» وليس عن فرد. كل واحد منهم ومن المئات الآخرين قدم دفعة للثورة ووضع ثقلا من الخير في الميزان.
في هذه اللحظات التي نودع فيها عاما ونستقبل عام؛ وهي لحظات تتجه بنا نحو التأمل، والحساب والمحاسبة، واتخاذ القرارات - أو على الأقل الشروع في وضع تصورات لما يمكن أن يأتي به العام الجديد، وماذا يكون دورنا فيه، علينا أن نستعيد ذلك الإحساس بالميزان وبموضع أعمالنا فيه. هذا ليس وقت الاستسهال، وليس وقت التكاسل. هذا زمن سوف تُحسَب فيه على كل منا كل كلمة وكل فعل: كل موقف طبقي، كل خوض في الأعراض وكل إعراض عن الحق، كل استهتار بحق الضعيف والمظلوم، كل كذبة نمررها تثقل كفة الشر في الميزان. وكل موقف شريف، وكل فعل خَيِّر، وكل كلمة طيبة تثقل كفة الخير.
علاء عبد الفتاح ليس شغوفا برمزيته، لكنها له شاء أم أبى، ولذا فإن وجوده، من جديد، بين رفاقه في ميدان الثورة، يضيف ثقلا ملموسا في كفة الخير.