«عندى قصة مع الفنان جميل راتب مش هتصدقها. افتكرتها لما سمعت إنه احتفل مؤخرا بعيد ميلاده الـ88. زمان وانا طالب فى الجامعة رحت ندوة فى المركز الثقافى الفرنسى فى المنيرة. وصلت بدرى والمكان كان فاضى. فى وسط القاعة لقيت جميل راتب واقف مع حد من بتوع المركز. عينى جت فى عينه. ابتسم لى. كانت ابتسامة وديعة جدا وصافية جدا. كلها ود. جميلة جميلة يعنى. كأننا نعرف بعض من سنين، مع انى عمرى ما شفته بشحمه ولحمه فى حياتى. بصيت حوالى. اتأكدت انه ما يقصدش حد تانى وبعدين هزيت راسى وابتسمت ابتسامة مرتبكة وخرجت انتظر بداية الندوة.. بس كده!.. مش قلت لك مش هتصدق! شفت الابتسامة الصافية ممكن تعيش قد إيه؟! ابتسم للناس حتى لو ما تعرفهمش».
كتبت هذه الكلمات على صفحتى فى فيسبوك متصورا أنها ذكرى عابرة لن تستوقف الكثيرين، وفاجأنى الإقبال على قراءتها والتعليق عليها. كثيرون قالوا ببساطة آسرة «أنا باحبه قوى الراجل ده»، فيما استدعى آخرون حكايات عمرها أطول من عمر ابتسامته لى. ومنهم الكاتب الصحفى ماجد عاطف الذى أنقل عنه هذه الحكاية بتلخيص:
«زمان، فى مقهى «اكسيليسيور» اللى فى وسط البلد، عيل قزعة يا دوبك لسه داخل الحضانة، راح لراجل قاعد لوحده فى آخر الصالة وهاتك يا ازعاج. أمه قامت تزعق له وتجيبه من قفاه. الراجل قالها سيبيه يا هانم وفضل يلاعبه فوق النص ساعة. لا اشتكى، ولا كشر، وطبعا ولا عاكس الأم. الراجل ده هو جميل راتب، والعيل أنا، والست تبقى أمى. وعلى فكرة أنا عندى أربعين سنة».
إنجازات جميل كفنان كثيرة والمعلقون تجاوزوها إلى الاقتراب منه والتعبير عن امتنانهم له.. كإنسان. كرد فعل لما كتبته عن ابتسامة لم تستغرق أكثر من ثوان معدودة. بقدر سعادتى بالمكتوب إلا أننى أحسست أنه ينم عن قدر لا بأس به من حرمان، يعانى منه شعب «لم يجد من يحنو عليه»، ولم يحن هو على نفسه!
نحن نحرم ذاتنا من حقنا فى الود والابتسامة الصافية. وننكر على أنفسنا الإحساس بإنسانيتنا وإنسانية الآخرين. نتسلح كل صباح، بوجوه متجهمة قبل أن نخطو إلى ما نشعر أنه غابة اسمها الحياة، نتخذ من ضغوطها مبررا للتعامل بعدوانية وفظاظة مع بعضنا البعض، وللنظر شزرا للآخرين، والتسابق للوقوف فى الطوابير، والتدافع للدخول فى المصاعد.
فى شوارع لندن وبرلين وسان فرانسيسكو وغيرها من الحواضر لا أكاد أذكر مرة عبرت فيها شارعا دون أن يشجعنى سائق أوقف سيارته، بابتسامة وإيماءة وإشارة باليد. أما فى القاهرة، فأكاد أجزم بأن السائقين يتعمدون الإسراع لو لمحوا ماشيا على الرصيف تراوده نفسه الأمارة بالسوء على عبور الطريق، بل ويجن جنونهم ويزيدون السرعة لو تجاسر أحمق وبدأ العبور بالفعل.
لك شكرى لو هززت رأسك مؤمنا وقلت «هيييه الدنيا باظت. ما عادش فيه أخلاق». لكنى سأسعد أكثر لو سألت نفسك عن آخر مرة أفسحت فيها الطريق لغيرك، أو أوقفت سيارتك ليسمح لشخص بالعبور (لأ.. ليس لسيدة عجوز أو لأم معها أطفال. لشخص عادى للغاية)، ويقينى أنك ستسعد أكثر لو جربت تأثير ابتسامتك الودودة الصافية على شخص لا تعرفه، مثلما فعل معى جميل راتب، منذ ربع قرن.