فلسطين التاريخية التى لا يعرفها البعض.. بين اليمن والعراق..! - محمد عبدالشفيع عيسى - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 2:38 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فلسطين التاريخية التى لا يعرفها البعض.. بين اليمن والعراق..!

نشر فى : الإثنين 29 مارس 2021 - 7:35 م | آخر تحديث : الإثنين 29 مارس 2021 - 7:35 م
ليس بمستطاعٍ التسليم، ببساطة، بفرضية صحة التاريخ الرائج وفق الرواية السائدة فى المرويات التوراتية وفى بعض المتوارث فى الإسلاميات المنقولة فى جانب منها من «الإسرائيليات القديمة» التى اقتحمت تراثنا اقتحاما، عن منطقة الشرق العربى القديم بما فيها مصر.
لقد بات هذا (التاريخ) محل شك كبير بعد التحدى الذى أظهره كمال الصليبى وبعض تلامذته (مثل زياد منى) وصولا إلى فاضل الربيعى. فارق جوهرى بين أن تعتبر التاريخ المتعلق بوجود بنى إسرائيل واليهود تاريخا موصولا بالعراق الحالى والشام كذلك، بمعناها الواسع، بما فيها فلسطين، ومصر أيضا، وبين أن تعتبر أن ذلك التاريخ إنما هو موصول بجنوب شبه الجزيرة العربية، وخاصة اليمن.
وإننى لأشعر بقوة جاذبية «النظرية اليمنية» فى التاريخ الإسرائيلى واليهودى، وكدتُ أميل إليها ميْلا، ولكنى لا أستطيع الجزم بذلك على كل حال. فما يزال علم التاريخ والأركيولوجيا لم يبح بكل أسراره بعد، وما زال ثمة طريق طويل، قبل إمكان إعلان «موت» النظرية التوراتية موتا كليا، وليس «إكلينيكيا» ــ أو سريريا ــ فحسب، برغم وجود دلائل قوية على ذلك. وحتى بفرض إعلان موت النظرية التوراتية، ذات الجذر والمضمون الميثولوجى المحض إلى حد بعيد، فإن «البديل اليمنى»، إن صح التعبير، لم يزل مفتقدا للاحتشاد بكامل عدته العلمية ليقوم بتحدٍ ناجح لإثبات فرضيته الرئيسية، بعد نجاحه المحتمل فى «نفى» نقيضه التوراتى المترنح.
مع ذلك، أجدنى، وحتى إشعار آخر، مستعدا للعمل ولو مؤقتا وفق فرضيات التاريخ الرائج، خاصة إن تم استعمال أدوات التحليل الإبستمولوجى ــ المعرفى ــ للنصوص الإسلامية، لا سيما القرآنية منها ذات الصلة. ولنسْتَمِحْ بعض الباحثين المتخصصين عذرا فى ذلك، حتى تثبت صحة العكس.
***
فى ظل ذلك إذن، أمكن لنا القول بوقوع التفارق بين مصطلحىْ (بنى إسرائيل) و(اليهود) ومحتواهما المعرفى، وكذا بين تجلياتهما التاريخية، بعيدا عن المعطيات الأركيولوجية ذات الشأن خلال العقود الأخيرة، حتى من بعض علماء الآثار فى (إسرائيل) كما هو معروف. يتبين هذا من حدثين رمزيين كبيرين، ظاهرين فى المرويات التأريخية. إذ وفق تلك المرويات فإن بنى إسرائيل، يرجع جدهم الأكبر إلى النبى إبراهيم فى العراق، ومنها جاء إلى الشام الحالية (خاصة فلسطين) قادما فيما يبدو من خلال هضبة الأناضول. وهنالك نشئوا، ثم وَفَد منهم مَنْ وَفَد إلى مصر بدء من (يوسف). أما اليهود فجاءوا من مصر بادئ ذى بدء، على يد (موسى)، باتجاه سيناء ومنها مرة أخرى إلى هوامش (فلسطين – الأردن) الحالية. إذن: بنو إسرائيل نشئوا، أو جاءوا، مع إبراهيم ونسله حتى يوسف. أما اليهود فنشئوا مع موسى؛ وقصارى ما ذهبوا إليه زمن موسى هو الاقتراب من حدود فلسطين الحالية، ولم يدخلها «يهود موسى لأن فى فلسطين (قوما جبارين) كما أشار القرآن. ويبدو أن بعضهم بعد موسى، بدأ بنوع من التوافد إلى فلسطين، ثم أخيرا خلقوا لأنفسهم تاريخا خاصا، أو قاموا باختلاق تاريخ، يعود بهم، كما أشرنا، إلى نسل إبراهيم، إسحق ويعقوب. وكان هذا الاختلاق هو الدعامة «الإيديولوجية» للمشروع السياسى (اليهودى) المعاصر فى فلسطين، والذى يستند فى جزء منه إلى الادعاء بوجود سياسى سابق، وخاصة زمن المملكة الموحدة لداوود وسليمان. وهو وجود عرفنا من التاريخ الرائج أنه على وجه العموم متقطع ومؤقت، ومبعثر جغرافيا، وغير مستمر.
ولكن الحقيقة التاريخية تبقى ماثلة بأنه لا رابط مباشرا وثيقا، من ناحية التكوين البشرى أو الإثنولوجى، بين موسى (المصرى وطنا فعليا) ومن معه، من جهة أولى، وبين بنى إسرائيل وأسلافهم، من جهة ثانية. أو أنه، على أقل تقدير، لم يتم إقامة الدليل التاريخى أو الأركيولوجى للعلاقة بين الطرفين حتى الآن، وخاصة لجهة احتكار «أصل إسرائيلى» قاصر على اليهود الذين هم أتباع الديانة اليهودية، أى الموسوية فى الجذر العميق.
وتجىء المفارقة التاريخية المذهلة من أن مملكة اليهود الفلسطينية المؤقتة، تلك، ذات الجذور الموسوية ــ المصرية على أى حال، جاءت نهايتها القاصمة على يد البابلى (العراقى) «نبوخذ نصر».
من أرض آباء إسرائيل الأصلية (العراق) حيث جدهم الأكبر الخاص بهم فقط، فيما يروون توراتيا ويتواترون، جاءت نهاية مملكة اليهود ذات الجذور (السيناوية ــ المصرية)..!.
وقد اختلق اليهود القدامى تاريخا لهم يربطهم وحدهم قسرا بإسرائيل (يعقوب) وأبيه إبراهيم وابنه (يوسف)، لمجرد إشباع الحاجة إلى مشروع سياسى، مما ينم عن كون الاختلاق المذكور مجرد (إيديولوجيا) حسب تعريف «كارل مانهايم» للإيديولوجيا. وكذلك جاء المشروع السياسى المعاصر لليهودية السياسية، المشروع الصهيونى، ليقوم على اختلاق تاريخ وهمى يربط يهود الحاضر (المشتتين) بيهود قضوا منذ آلاف السنين، ثم ربْط هؤلاء وأولئك، ببنى إسرائيل القدامى (الذين هم فى الحقيقة من قبيل «أقوام سادت ثم بادت» مثل غيرها كثير فى التاريخ القديم) والذين لا صلة ثابتة تجمعهم بهم تاريخيا. ومن هنا جاءت التسمية (الماكرة) للمشروع السياسى الصهيونى، مشروع بناء كيان سياسى، باسم (إسرائيل) أو حتى («دولة» إسرائيل»)..!.
فكأن التاريخ يعيد نفسه. وربما يعيد التاريخ نفسه مرة أخرى، من خلال نهاية محتملة، يوما ما، للمشروع السياسى الصهيونى.
***
وقد ينقلنا الحديث عن ذلك إلى نقطة مهمة مرتبطة بموقع المشروع السياسى الصهيونى فى المخطط الغربى للسيطرة على المنطقة العربية ــ الإسلامية المركزية المسماة الشرق الأوسط.
ليس المشروع الصهيونى متطابقا تماما مع المشروع الغربي ــ الأمريكى للسيطرة على المنطقة العربية، والمنطقة العربية ــ الإسلامية المركزية؛ ولكن هناك نقاط تطابق (مثل الموقف المتطابق من القضاء على التحدى العراقى السابق)، ونقاط تلامس (مثل الموقف من مواجهة التحدى الإيرانى الراهن).
بيْد أن المشروعين متمايزان نسبيا. ذلك أن السيطرة الإسرائيلية على المنطقة القائمة بين الفرات وفرع النيل عند «دمياط» هى (مسألة حياة أو موت) لشريحة من شرائح المشروع الصهيونى المتخَيل كمنطقة نفوذ بالمعنى الواسع أى influence zone على غرار شريحة من شرائح التصور الألمانى المتخيَل فى زمن مضى للعلاقة مع منطقة «أوراسيا» قبيل وأثناء الحرب العالمية الثانية. أما بالنسبة للغرب فهناك سلة خيارات يمكن التعامل بواسطتها مع المنطقة المذكورة؛ وأحد هذه الخيارات استخدام إسرائيل نفسها «كمخلب قط» و«فزاعة». وبمقتضى هذا الدور المزدوج (مخلب القط والفزاعة) تلعب إسرائيل دورها الكبير المنتظر دائما فى الاستراتيجية الغربية، وهو الحيلولة دون السير على طريق المشروع القومى التقدمى للوحدة العربية، عن طريق أداء دور الحاجز أو الفاصل البشرى المانع للالتحام الضرورى بين المشرق العربى، من طرف أول، وبين الشمال العربى لإفريقيا (مصر والسودان والمغرب الكبير)، من طرف ثانٍ. وهذا لب (المسألة اليهودية السياسية) أو (المسألة ــ أو المشكلة الصهيونية) المعاصرة. وإن غدا لناظره قريب.
محمد عبدالشفيع عيسى أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية
التعليقات