طرح العالم السياسى الأمريكى «جوزيف ناى» نظرية «القوى الناعمة»، وعرفها بأنها «القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلا من الإرغام، وهى القدرة على التأثير فى سلوك الآخرين للحصول على النتائج والأهداف المتوخاة بدون الاضطرار إلى الاستعمال المفرط للعوامل والوسائل العسكرية والصلبة، أى القوة الجاذبة المُفضية إلى السلوك المرغوب والمطلوب». وأشار إلى أن موارِد القوة الناعمة لأى دولة هى ثقافتها وقيمها السياسية، فضلا عن السياسة الخارجية وتنوع استخدامها من وسائل الضغط الاقتصادى والدبلوماسى والنفسى. كما أن هناك أساليب الإغراء والجاذبية، من الفنون على اختلافها، بما فيها الأدب والمسرح والسينما... إلخ.
واخترع «ناى» نظرية القوة الناعمة، ليساعد بلاده على أن تقوم بمركز قيادى فى العالم. ومن المعروف أن أساس القوة الناعمة الأمريكية هو: السياسات الديمقراطية الليبرالية، واقتصاديات السوق الحرة، والقيم الأساسية مثل حقوق الإنسان وغيرها.
تنافس الصين الولايات المتحدة كقوى ناعمة كبرى، حيث استطاعت فى السنوات الأخيرة أن تستفيد من عثرات الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وانعكس ذلك فى اتباعها لسياسات القوة الناعمة، واستخدامها الإقناع بدلا من الإكراه، وتعظيم قدرتها على جذب الآخرين عبر وسائل عديدة، ثقافية ودبلوماسية واقتصادية.
ويشير العالِم الصينى «مين هونجوا» إلى أن القوة الناعمة الصينية تتكون من الثقافة والمفاهيم والنموذج التنموى والأنظمة الدوليّة والصورة الدولية. وقد أطلق الرئيس الصينى السابق «هو جنتاو» شعار التناغمات الثلاثة: السلام فى العالم، والمصالحة مع تايوان، والتناغم داخل المجتمع الصينى. الأمر الذى دفع عددا من المسئولين والمحللين الصينيين إلى الاعتقاد بأن الصين تستطيع أن تمارس قوة ناعمة حقيقية منافسة للقوة الناعمة الأمريكية فى السياسة الدولية.
لكن هناك عددا من المحاور الأساسية عند مقارنة القوة الناعمة الصينية بنظيرتها الأمريكية، وهى كالتالى:
أولا: المنح الدراسية: انتهجت الصين النهج الأمريكى فى الإكثار من المنح الدراسية للطلاب من مختلف دول العالم. ولكن لم تصل الجامعات الصينية بعد إلى مستوى مؤسسات التعليم العالى الأمريكية.
ثانيا: معاهد اللغة: كمعاهد كونفوشيوس؛ ففى الوقت الحاضر، يوجد أكثر من 500 معهد، و1000 فصل فى 140 دولة حول العالم لنشر اللغة والثقافة الصينية. ويعتبر العائق الخاص باللغة الصينية عاملا سلبيا فى مواجهة اللغة الإنجليزية الأكثر انتشارا وشيوعا على مستوى العالم.
ثالثا: صناعة الإعلام: حاولت الصين بناء إمبراطورية إعلامية كبرى، فأطلقت سلسلة قنوات تلفزيون الصين المركزى، وعززت من قوة وكالة الأنباء الرسمية «شينخوا»، بهدف صناعة إعلام يوازى وينافس القنوات الإعلامية العالمية والأمريكية المشهورة مثل (سى إن إن، بى بى سى، فوكس نيوز)، ووكالات الأنباء العالمية مثل (رويترز، أسوشيتد برس، وبلومبيرج). ولكن لا يشكل الجمهور العالمى لوسائل الإعلام الصينية سوى نسبة ضئيلة تكاد لا تُذكَر. فالصناعة الإعلامية والثقافية الصينية لا تتمتع بقوة وسائل الإعلام الأمريكية أو كقوة صناعة السينما الأمريكية فى هوليوود.
رابعا: الاستثمارات الأجنبية: تتمتّع الاستثمارات الصينية المباشرة فى الخارج بالجاذبية، وخاصّة بالنسبة للدول النامية، وذلك بسبب عدم ارتباطها بشروط احترام حقوق الإنسان أو نشر الديمقراطية وما إلى ذلك؛ إذ إن الشرط الصينى الوحيد هو «الاعتراف بتايوان كجزء لا يتجزأ من الصين الأم، وعدم إقامة أى علاقات دبلوماسية رسمية معها». وتقدم الصين أيضا قروضا منخفضة الفائدة للدول النامية، وشروطا ميسرة وبدون اشتراطات سياسية كما تفعل الدول الغربية. وأصبحت العديد من الدول النامية تلجأ للاقتراض من الصين وذلك بعيدا عن السطوة والاشتراطات القاسية والمذلة أحيانا من جانب المؤسسات المالية الدولية كالبنك الدولى وصندوق النقد الدولى اللذين تتحكم بهما الولايات المتحدة وحلفاؤها من الدول الغربية. كما أطلقت الصين مبادرة «الحزام والطريق» والتى تهدف إلى تطوير البنى التحتية فى الدول النامية وفى بعض البلدان الأوروبية أيضا. وكذلك أنشأت «البنك الآسيوى للاستثمار فى البنية التحتية» ليكون منافسا للبنك الدولى.
خامسا: تصدير النموذج: ركز الإعلام الصينى على «قصة النجاح الاقتصادى للصين» كبديل للليبرالية والديمقراطية الغربية، بالإضافة إلى النموذج الصينى بما ينطوى عليه من فساد وافتقار للديمقراطية. لكنه لن يلقى صدا قويا فى الغرب الذى يرتبط بقيم الديمقراطية والشفافية والنزاهة، فمازالت الولايات المتحدة هى الطرف المهيمن بالفعل فى الساحة الدولية صاحبة النظام السياسى الديمقراطى، والسوق الحرة، والنظام التعليمى المتميز.
سادسا: نشر الثقافة: هناك عاملان رئيسيان يحدان من القوة الناعمة للصين؛ الأول هو النزعة القومية. فقد أسس الحزب الشيوعى شرعيته ليس على معدل ارتفاع النمو الاقتصادى فقط، بل على إغراءات النزعة القومية أيضا. وكان هذا سببا فى تقليص الجاذبية العالمية لما كان ينادى به الرئيس الصينى «شى جين بينج» (الصين الحلم). والثانى هو نشر الثقافة الصينية، ولكن لا تتماشى هذه الثقافة حاليا مع الحداثة عكس الثقافة الشعبية الأمريكية التى فرضت وجودها على العالم تقريبا.
تستمد الولايات المتحدة قدرا كبيرا من قوتها الناعمة ليس من إدارتها فقط، بل من مجتمعها المدنى، بعكس الصين التى تفتقر إلى المنظمات غير الحكومية التى تولد قدرا كبيرا من قوة أمريكا الناعمة.
إذن، أدوات القوة الناعمة الصينية وحجم انتشار الثقافة الصينية لا يؤهلانها لمنافسة القوة الناعمة الأمريكية فى الوقت الحالى. وإذا كانت الصين تسعى إلى أن تحقق كامل إمكانات قوتها الناعمة، فيتعين عليها أن تعيد النظر فى أساليبها التى لا تناسب العصر، وإطلاق العنان لكامل مواهب مجتمعها المدنى، وإلا فسوف تظل قوتها الناعمة محدودة التأثير والاستجابة.