تعودت منذ كنت شبلا فى فريق الكشافة أن أختلس وقتا وأنزل منفردا إلى المدينة التى يقام قريبا منها معسكرنا، أمشى فى شوارعها وحواريها وأزقتها. كانت هذه التمشية وسيلتى المفضلة للتعرف على مدن مصر وطبائع سكانها وأحوالهم المعيشية. وكان دورى فى حفلات السمر حول حلقة النار بعد تناول العشاء أن أحكى عن تجاربى ومشاهداتى فى المدينة وأنصح المتسامرين بما يستحق أن يجربوه أو يشاهدوه فى اليوم التالى.
كنت فى المرحلة الابتدائية ثم فى المرحلة الثانوية عندما أتيحت لى فرص المشى فى الفيوم وحلوان وبورسعيد والأقصر وأسوان وغيرها، وكنت طالبا فى الجامعة عندما زرنا بنغازى وطرابلس والخرطوم والأبيض وبيروت وتجولت فى شوارعها مشيا على الأقدام. وفى زيارة لمدينة غزة خرجت عن ممارسة المألوف، أقنعت بصعوبة أربعة زملاء فى الفريق باستبدال التمشية فى شوارع غزة ومعسكرات اللاجئين بركوب الدراجات. خطر على بالى أن الدراجات ستسمح لنا بالوصول إلى أحياء ومناطق أبعد فنشاهد أكثر لنعود بقصص أوفر نرويها فى حلقة السمر بعد العشاء.
نجحت الغواية وانطلقت رحلتنا وعدنا بحكايات لم يخطر على بال أحد أن نعود بمثلها. ولكن عدنا بعد أن انفض السامر وأطفئت النار وصدرت أوامر عليا بترحيل الفريق دون انتظار عودة الأربعة إلى المعسكر. وقضينا ساعات طويلة فى سجن غزة نحكى تجربتنا ومشاهداتنا لضباط المخابرات العسكرية، وفى اليوم التالى صدر الحكم بترحيلنا نحن الأربعة إلى القاهرة تحت حراسة مشددة. وعلى الرغم من اختلاف نوعية السامعين واختلاف أسلوب استقبالهم لحكايات من هذا النوع، فإنه يجب الاعتراف بأن هدفنا المزدوج تحقق: شاهدنا جديدا وأثرنا فضول السامعين واهتمامهم.
***
تبدأ حكايتنا بركوبنا الدراجات وتوجهنا صوب مخرج من مخارج المدينة. توقفنا قليلا عند بائع متجول وسألنا عن أقرب نقطة حدود للكيان الصهيونى، وبالتحديد وبجسارة لا تتوافر إلا فى ابن السابعة عشر، سألته عن أقرب مستوطنة إسرائيلية نستطيع مشاهدتها عن كثب. وبتهور دفع ثمنه البائع غاليا كما عرفنا بعد عودتنا أشار إلى طريق يأخذنا إلى الحدود حيث تقع أقرب مستوطنة.
وصلنا إلى نهاية الطريق حيث توجد لافتة مكتوب عليها باللغات الثلاث ما يعنى «هنا حدود دولة إسرائيل». ألقينا بالدراجات على الأرض وبدأنا صعود «تبة» متاخمة للطريق وتقع على يمينه. صعدنا حتى وصلنا إلى قمة التبة. هناك، على الناحية الأخرى، رأينا شبابا يرتدون ملابس البحر ويستحمون فى حمام سباحة ويلعبون حوله بينهم الأشقر والسمراء والبنى والحمراء. قضينا ما لا يقل عن عشر دقائق نستمتع بالسبق الذى صنعناه وبدأنا نستعد لحكايات نرويها فى حفل سمر شيق وثناء مؤكد من الجميع.
هبطنا من التبة إلى السفح. وفى أثناء توجهنا إلى حيث تركنا دراجاتنا انهالت علينا طلقات الرصاص، وما هى إلا لحظات حتى كنا مطوقين بعدد من صبية المستوطنة وصباياها بالزى العسكرى. هؤلاء اقتادونا إلى داخل المستوطنة حيث قضينا ليلتنا الأولى. حبسوا كلا منا فى غرفة منفصلة ومعنا حارس وكان نصيبى حارسا من يهود المغرب لقننى بعضا من كلمات عربية باللهجة المغربية وأسمعنى مقتطفات من الموشحات الأندلسية. بدا الحارس كما لو كان وصل لتوه مهاجرا إلى «الدولة المزعومة» وأظن أنه لم يكن يكبرنى إلا قليلا.
وفى الصباح جاءت سيارة أخذتنا وعيوننا محرم عليها رؤية الناس والشوارع والمعالم إلى مدينة بئر السبع عاصمة إقليم النقب. وفى السجن قضينا ثلاثة أيام خرجنا بعدها لتلتقط لنا غابة من الكاميرات صورا ولنجد حشدا من كبار المسئولين يبتسمون للكاميرات ولنا ويطلبون منا مشاركتهم الابتسام بينما الصحفيون يسألوننا عن المعاملة الكريمة التى عوملنا بها وعن رأينا فى «خضرة» إسرائيل وفى معجزة تحويل الصحراء إلى أرض زراعية. ولم نكن رأينا شيئا من إسرائيل الخضراء أو الصفراء. وبسذاجة جاءت إجاباتنا نحن الأربعة متطابقة «كنا فى السجن ولم نر شيئا» ودفعنا ثمن هذه السذاجة خلال الساعة التى قضيناها فى رحلة الخروج من أرض الميعاد.
وفى المنطقة منزوعة السلاح الواقعة على الحدود فى غزة جرت مراسم تسليمنا إلى مندوب الأمم المتحدة الذى سلمنا بدوره إلى رئيس الجانب المصرى فى فريق الهدنة الضابط محمود رياض ونائبه الضابط صلاح جوهر اللذين قاما بتسليمنا إلى مندوبى المخابرات العسكرية. هؤلاء أودعونا سجن غزة للتحقيق معنا فى جريمة عبور الحدود إلى أراضى العدو. كانت ليلة السجن حافلة، لم أمر بمثلها. يكفى أننى خرجت مقتنعا بضرورة نسيان الموضوع وعدم سرد تفاصيل ما حدث فى غزة قبل انطلاقنا فى رحلة الفضول وبعد عودتنا ونسيان الوجوه التى رأيتها فى المستوطنة وبئر السبع وأسماء أصحابها ورسائلهم التى حملونا إياها إلى أهاليهم المقيمين فى حى الظاهر وحى الإبراهيمية. اقتنعت بضرورة النسيان إلى حد أننى التقيت منذ ذلك الحين عشرات وربما مئات المرات بالدكتور عبدالعزيز حجازى وكان مشرفا على رحلة غزة ولم نأت مرة واحدة على ذكر الحادثة التى استمرت لأيام تتصدر الصفحات الأولى فى صحف القاهرة والعواصم العربية، وإلى حد أننى وقد قضيت سنوات أعمل تحت رئاسة محمود رياض وزير الخارجية والأمين العام للجامعة العربية لم أذكره يوما بدوره فى الإفراج عن مجموعة الشبان «الأشقياء» الذين كانوا سببا فى إزعاج السلطة والجيش والأمم المتحدة وجامعة القاهرة.
***
تبقى القصة فريدة بين حكايات كثيرة عشتها ليس لأن تفاصيلها التى لم تنشر بعد طويلة ومثيرة ولكن لأننى خرجت بها عن عادتى فى السفر. لم أمش فى شوارع غزة وحواريها وأزقتها ولم أتعرف على أحوال سكانها. كانت درسا صرت من بعده أشد حرصا على ألا أركب المدن إلا مضطرا.
***
تعلمت أنه بالمواصلات العامة أو الخاصة لن أتعرف إلا على التفاصيل المعلنة للمدن، بينما بالمشى على القدمين أتعرف على المعلن وغير المعلن من تفاصيل المدن. وما أكثر ما لا تفصح عنه المدن وتحتفظ به أسرارا وخفايا.!!