على درب العمر المديد - جميل مطر - بوابة الشروق
الإثنين 30 ديسمبر 2024 6:30 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

على درب العمر المديد

نشر فى : الثلاثاء 29 يونيو 2021 - 7:45 م | آخر تحديث : الثلاثاء 29 يونيو 2021 - 7:45 م

سحبت من حقيبتها منديلا من الحرير مزركش الأطراف لتمسح به دمعة كادت تطفر من عينها، ثم اعتدلت فى جلستها لتسمح لفستانها بأن يتمدد قليلا ليصل إلى ما تحت ركبتيها. ألقت بنظرة سريعة حولها. فاجأت رجلا من الضيوف خدعه الظن فراح يلملم بصره الذى زاغ لثوان أملا فى أن يعجز ذيل الفستان فيفشل فى الوصول إلى ما فوق الركبة فى رحلته نحو ما تحتها. سرعان، وبسبب نظرتها الخاطفة، ما انقلب أمله إلى ندم وحرج. ما هى إلا دقائق وربما ثوان إلا وزال الندم والحرج معا ليحل محلهما ابتسامة شقية تعترف بالذنب وتعتذر.
التفتت مديرة الجلسة إلى السيدة الجالسة بجوار الرجل موجهة لفتة تحية وترحيب وابتسمت وهى تلوح بيدها لرجل آخر مديد العمر جلس بجوار شباك مفتوح. لم يغب عنها أن تحيى بقية المشاركين بسلسلة من القبلات الهوائية أطلقتها بوقار. ساد القاعة سكون فى استجابة سريعة وواضحة للإشارات الناعمة التى بعثت بها أو أطلقتها السيدة أو الآنسة مديرة الجلسة.
•••
طلب الكلمة رجل طويل القامة وإن بدت أكتافه العريضة منحنية قليلا، وكأنها تريد أن تشكو زمانا كان أثقل من قدرتها ومن عزمها على التحمل. سمحت له بالكلام المديرة، والصديقة فى آن واحدة، مؤكدة على ما ورد فى كلمتها الافتتاحية عن ضرورة الالتزام بدقائق حددت عددها. أضافت أنها هى نفسها، حتى فى منزلها وبين أفراد أسرتها، صارت متساهلة مع الوقت بحكم علاقتها الطويلة بالزمن، وأنها تتمنى لو أطالت فى الكلام تنبيهها. فات عليها، أو ربما لم ترغب فى، طلب تنبيهها أيضا فى حال كررت ما سبق أن قالت.
وقف الرجل فإذا بها تقاطعه قبل أن يبدأ كلامه لترجو منه والحاضرين أيضا إلقاء كلماتهم وهم جالسات وجالسون. بدأ بإلقاء تحية قصيرة للمديرة ثم دار يلقيها على أنحاء القاعة. التقط نفسا طويلا أعقبه اعتراف ملفوف بنبرة شكوى ومحفوف بلمسة ألم. خرج الصوت من حنجرته خشنا متقطعا فاعترف أنه لم يتكلم مع أحد خلال اليومين الفائتين. يعترف لأنه يعتقد أنه مسئول عن واقع سكوته وامتناعه عن الكلام لمدة يومين. صحيح أن فيروس الكورونا متواطئ معه فى فرض هذا السكوت أو بعضه على الأقل، صحيح أيضا أن السكوت وقع بقرار منه غير متأثر بضغط من أى جهة كانت. فبيته خال معظم الوقت من الأهل والزوار والهاتف النقال لا يرن إلا نادرا وعمال تسليم البيتزا لا وقت لديهم للدردشة مع الزبائن. يعرفون أن التعليمات وقيمة البقشيش ترتبط أوثق الارتباط بدرجة حرارة البيتزات التى تحملها الدراجة البخارية فى انتظار تسليمها لزبائن آخرين.
راح يستطرد فى وصف حال السكوت، الطويل أحيانا، وآثاره على السلوك الشخصى. يحدث كثيرا أن يتسبب هذا السكوت فى نسيان تفاصيل أمر ما أو رواية بعينها. وعند التحدث بعد السكوت «يكتشف الفرد الساكت بعض الوقت أنه لا يتعرف على صوته وكثيرا ما أتردد فى اختيار الكلمات أو أكررها لأتأكد من وصولها إلى المستمع. يرهقنى هذا الوضع حتى أننى كثيرا ما أتوقف عن الحديث وأعود إلى السكوت الممتع والمعذب فى آن».
•••
انتقلت مديرة الجلسة بأسئلتها إلى الرجل الذى اختار أن يجلس إلى جانب الشباك. رجل حريص على وضع الكمامة الموصوفة رادعا لفيروس قادم من شخص آخر فى الغرفة، أو حاميا للآخرين من فيروس مقيم آثر التحرر والانطلاق من جسد مكبل باللقاح إلى أجساد أخرى جاهزة دائما لاستقبال الفيروس اللعين. بدأت المديرة بإشادة رقيقة لالتزامه قواعد السلوك التى فرضتها حرب الكورونا. وبينما هى تستعد لإلقاء أول سؤال راحت تتخيل تقاطيع وجه هذا الرجل لو أنه استجاب لرغبة الاستغناء ولو لمدة قصيرة عن الكمامة التى تأكل نصف وجهه. ألقت بالسؤال. خرجت الكلمات من فم المديرة متناثرة ولا أقول متلعثمة. كان الشرود واضحا. تعلمنا أنه خلال الشرود يغيب العقل لثوان وتتوه النظرة وتظهر الحاجة لإعادة تصفيف خصلة شعر كثيرا ما تنتهز فرصة الشرود فتتمرد. أظن أن سيدة أخرى مشاركة فى الجلسة انتبهت فراحت تنقل البصر من مديرة الجلسة إلى الرجل الجالس بجانب الشباك وبالعكس.
تحدث الرجل فكان، كسمعته، واعيا وحكيما وقارئا متميزا للشخصيات. راح يشكو الشعور بالعزلة الناتجة عن الوحدة. لا شىء آخر يزعجه أو يقلق بسببه باستثناء أمراض الشيخوخة المعتادة. ولهذه الأمراض أدويتها وأطباؤها. أما الشعور بالوحدة فلا دواء أو طبيب له. نصحوه، «يمكن أن تخرج من البيت لتجلس فى مقهى على أمل أن تفلح فى طرد هذا الشعور، وأنت بين رواد المقهى تتابع ما يقولون عسى أن يكون بين ما يقولون فكرة أو معلومة جديدة تصطحبها إلى بيتك عند عودتك». كثير مما كتب أعتمد على افكار ومعلومات كان المقهى مصدرها.
•••
انتقلت المديرة إلى إحدى السيدات من الضيوف. سيدة بدت لنا متزنة وهادئة الانفعالات. رأيت على وجهها آثار أكثر من عملية تعديل وحذف ولكن فى المجمل استطاعت أن تحتفظ بلمسات من جمال واثق. كانت فى تصرفاتها، مثلا عندما عرض المساعدون عليها تناول الشاى، حريصة ودقيقة. تعرف ماذا تريد وتتفاعل مع الآخرين بحذر. بدأت بتعليق على حديث الرجل الذى يجلس بجانب الشباك. قالت أنها تقدر ما جاء فى شهادته عن الشعور بالوحدة. هى أيضا تشعر بالوحدة وقد جاءتها فجأة. تحكى أنها استيقظت ذات صباح وكعادتها مدت يدها لتوقظ شريك حياتها فتكتشف برودة ملمسه، وهو الإنسان الدافئ دائما. لحظتها شعرت بالوحدة. تذكر أنها انتهزت فرصة وجودها معه منفردين لتحدثه الحديث الأخير. قالت وقالت ولم تقترح عليها مديرة الجلسة الاختصار. كدنا جميعا نتدخل لدى المديرة لاستثناء المتحدثة من قاعدة الاختصار. امرأة ترغب فى أن تقول لزوجها كل ما فاتها قوله وهو حى. كنت أظن أن خصوصية العلاقة الزوجية تستمر حتى بعد وفاة طرف من الطرفين. المثير والغريب فى الوقت نفسه أنها استأذنتنا لتتكلم فى أمور بالغة الخصوصية لم تسمح ظروف الزواج والعلاقة أن تناقشها مع زوجها وهو فى كامل صحته. لن أبوح بما باحت باستثناء ما ختمت به خطابها الطويل. سكتت قليلا ثم باحت بأنها قالت لزوجها الراقد أمامها فى سكونه الأبدى، أنا عاتبة عليك، كيف خطر لك أن ترحل من حياتنا قبل أن نتناقش كعادتنا فى الأمر... أنا عاتبة بل أنا غاضبة.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي