«أينشتاين» عند أطراف أصابعك - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الإثنين 1 يوليه 2024 11:33 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«أينشتاين» عند أطراف أصابعك

نشر فى : السبت 29 يونيو 2024 - 7:40 م | آخر تحديث : السبت 29 يونيو 2024 - 7:40 م

ليس هذا هو الكتاب الأول ولا الوحيد فى العربية عن العالم الألمانى الفذ ألبرت أينشتاين، ولكنى أعتقد أنه الكتاب الأكثر تبسيطًا وإمتاعًا عنه، ربما لأنه كُتب بروح الحكاية، أو لأن مؤلفه جعله على موجة الأجيال المعاصرة، ليس فقط فى استخدام العامية، وفى مزج روح الدعابة والفكاهة بشرحٍ سهل للنظريات العلمية، ولكن أيضًا لأنه يعيد الاعتبار إلى أهمية الشكل والطريقة، فالمعلومات عن أينشتاين أو غيره ممكنة ومتاحة، والمراجع الكثيرة التى يثبتها الكتاب يمكن أن يصل إليها الكثيرون، المهم هو كيف تسرد بطريقة مشوقة؟ وكيف تصنع للحكاية إيقاعًا ينتمى إلى جمهورك وزمنك؟ وكيف تستفيد من مفهوم النسبية بتلك المرونة التى تتلاءم مع جيل يحاول الفرار من تعليم التلقين و«التزغيط» البائس؟
الكتاب بعنوان «أينشتاين»، وصدر عن دار كيان فى طبعته الورقية، وهو أصلًا فى إطار سلسلة كتب صوتية بعنوان «الدحيحة» على منصة ستوريتل، أعدّها طاهر المعتز بالله.
هذا الشاب حكاية لوحده، قرأتُ له من قبل كتابه الممتع عن كواليس برنامج «الدحيح»، الذى شارك فى كتابته، وقد كتبه أيضًا بالعامية، وبطريقة سردية درامية، وله كتب أخرى مثل «الحركة الطلابية فى الجامعة الأمريكية»، وكتاب عن الأميرة ديانا، وفاز طاهر بجائزة أحمد زويل للتفوق فى العلوم والتكنولوجيا فى العام 2014، وحصل على ماجستير فى إدارة الأعمال من جامعة هارفارد فى العام 2023.
أعجبنى كثيرًا هذا الشكل للوصول إلى جيل مختلف، سواء عبر الكتب الصوتية أو الورقية، وأعتبر هذا الجهد، الذى ينطبق أيضًا على برنامج «الدحيح» الشهير، محاولة لسد فراغ حقيقى، بسبب انعدام الجاذبية فى مناهج التعليم التقليدية، دون أن نزعم أن هذه الأشكال الجديدة كافية، أو تحقق ثقافة مكتملة، ولكنها مدخل يمكن أن يدفع الكثيرين للاهتمام، ثم التعمق، فلا بد أولًا من نقطة بداية، وهو ما تحققه هذه الكتابات والبرامج بامتياز.
شغفت بالذات بألبرت أينشتاين، وبنظرية النسبية، لسببٍ غريب قليلًا، إذ لم تكن الفكرة عندى فى رجل عبقرى، غيّر تاريخ العلم وهو شاب لم يتجاوز عمره 26 عامًا، ولا فى سيرته التى خالف فيها توقعات الأساتذة له، كطفل يبدو متخلفًا عن أقرانه، ومتأخرًا فى الكلام، ولكن جاذبية الرجل ارتبطت عندى باعتباره من أقرب العلماء إلى الفلسفة، فالنسبية فكرة فلسفية أيضًا، والزمن كعنصر أصيل فى المعادلة هو أيضًا طرح فلسفى مذهل، يضاف إلى ذلك مظهر أينشتاين، وشعره الأبيض المنكوش، وروح المرح والدعابة، وكلها مظاهر جعلته أقرب الفنانين، ولو رأيت صورته دون أن أعرف عمله وإنجازه، لما ترددت فى أن أعتبره رسامًا سيرياليّا.
يقدم طاهر فى كتابه مزيجًا بين السيرة الشخصية للرجل، والسيرة العلمية، مع تبسيط ممتاز للنظريات العلمية، سواء ما قبل أينشتاين، أو ما بعد نظرية النسبية الخاصة والعامة.
ربما كان هناك استطراد فى حكاية مفاعل تشيرنوبل فى الفصل الأخير، مما يستحق كتابًا مستقلًا، وربما كان هناك تفصيل أكثر فى حكاية سرقة الحركة الصهيونية لفلسطين، عندما جاءت سيرة علاقة أينشتاين بهذه الحركة، ولكن لا بأس من معلومات إضافية، إذا كان السرد شيقا وممتعا، فالأمر كله فى النهاية يحقق هدف التحريض على القراءة، ويعطى انطباعًا بالابتعاد عن الخفة والسطحية، وبتأصيل الفكرة، بدلًا من المرور العابر عليها.
أعجبنى أيضًا أن حكاية أينشتاين ليست هدفًا فى حد ذاته، ولكنها وسيلة لتأمل عصره وزمنه، وتأمل أفكار مثل الشغف والدأب والمثابرة، فالعبقرية وحدها لا تكفى، وفى الكتاب قصص مثيرة عن العمل المستمر، وعن التغيير والتعديل للوصول إلى الهدف، لك أن تعرف أن هذا العقل المتفرد، حصل بالعافية على مكان كأستاذ فى الجامعة، ومثّلت ديانته اليهودية مشكلة حقيقية له، ولم يتوقف عن البحث بعد فوزه بجائزة نوبل فى العام 1921، وكان حلمه -الذى لم يحققه - أن يصل إلى نظرية عامة جامعة، وقبل وفاته قال لابنه إنه تمنى لو كان أفضل فى الرياضيات لكى يصل إلى هذه النظرية، وعندما مات وجدوا بجانب سريره 12 ورقة عليها معادلات حسابية، حول تلك النظرية التى حلم بالوصول إليها.
بدا لى عبر الحكاية أن الملاحظة هى الأساس، والخيال عنصر محورى فى كسر السائد والمألوف، ويرى طاهر -عن حق- أن أينشتاين دافع عن قيمتين أساسيتين؛ هما: «الإنسانية» و«الاستقلالية»، ورغم أن معادلته الشهيرة التى جعلت الطاقة نتاج الكتلة فى تربيع سرعة الضوء، قد أطلقت المارد النووى، فإنه كان ضد هذا الاستخدام المدمر لتلك الأسلحة، وشعر بذنب حقيقى بسبب ما فعلته أمريكا فى ناجازاكى وهيروشيما، خاصة أنه حذَّر الأمريكيين من تجارب ألمانيا النازية فى المجال النووى، وكان هذا التحذير سببًا مباشرًا لتدشين برنامج أفرز القنبلة النووية الأمريكية.
شارك أينشتاين فى الحركة الصهيونية، وجمع التبرعات لها، ولكنه لم يوافق على ما حدث للفلسطينيين، ولم يقبل أن يكون رئيسًا لإسرائيل، وأفزعه أن يقوم يهود اضطهدوا فى أوروبا باضطهاد الآخرين، وحلم دومًا بحكومة عالمية عاقلة تدير العالم، وكلها أفكار حالمة لم تتحقق، ولكنها تكشف عن نظرة إنسانية عميقة وصادقة.
لا يظهر أينشتاين كملاك فى الكتاب، ولكن كإنسان بكل أخطائه وعبقريته، تزوج مرتين، وبعد أن كان شابّا متمردًا يمثل الجديد والمختلف، تحوّل إلى الهجوم العنيف على «ميكانيكا الكم»، وعلى نظريات جيل آخر يريد أن يغيّر العلم، وبعد أن كان نقيض السلطة، أصبح «سلطة علمية» باسمه ومكانته ونظرياته، ولكنه كان دومًا عاشقًا للعلم، ومؤمنًا بقدرة الفرد وموهبته، ورافضًا لأى تعليم يعتمد على التقليد والتلقين.
كنتُ وما زلتُ أرى أن النسبية أكبر بكثير من كونها معادلات أو نظريات علمية، إنها فلسفة فى النظر إلى العالم والحياة، وتأثيرها فى الفن والأدب واضح وصريح، فحيثما يتغير موقعك تتغير الرؤية، وحيثما يظهر الزمن، يصبح الثبات وهما.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات