ماذا يفعل رجل أسود فى بيت أبيض؟ - جميل مطر - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 7:23 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ماذا يفعل رجل أسود فى بيت أبيض؟

نشر فى : الأربعاء 29 يوليه 2009 - 10:29 م | آخر تحديث : الأربعاء 29 يوليه 2009 - 10:29 م
قضى أوباما وحاشيته أسبوعا عصيبا، بدأ الأسبوع عندما نقل له مساعدوه أن شرطيا أبيض استخدم العنف ضد أستاذ أسود من مشاهير الأكاديميين يقيم فى حى تسكنه غالبية من البيض فى ضاحية كامبريدج فى مدينة بوسطون. كان الأستاذ حسب الرواية المنقولة إلى الرئيس أوباما، يحاول فتح باب بيته مستخدما كتفه وكتف سائق سيارة تاكسى. تشككت سيدة مارة بالطريق فى أنهما ربما يحاولان اقتحام المنزل بغرض السرقة فأبلغت الشرطة. وصل الضابط كراولى وتوجه على الفور إلى الرجلين الأسودين، وتقول الرواية أنه أثار غضب الأستاذ الذى حاول إقناع الشرطى بأن الباب الذى يحاول فتحه هو باب مسكنه، وأن أحدا سبقه إليه أثناء سفره فى رحلة إلى الصين وحاول اقتحامه فانكسر قفل الباب، واستعصى على الأستاذ فتحه بمفتاحه. لم يقتنع الشرطى الأبيض وطلب من الأستاذ مرافقته إلى قسم الشرطة. ولما رفض قام بوضع الأصفاد فى يديه واصطحبه بالقوة.

هذه هى الرواية كما سمعها الرئيس أوباما الذى يعرف الأستاذ جيدا ويعتبره مرشدا وصديقا. غضب الرئيس لما جرى لصديقه الأسود فأدلى بتصريح استخدم فيه عبارة تصف تصرف الشرطى الأبيض بالغباء. قال أوباما إن الأستاذ له مكانته المرموقة فى جامعة هارفارد وكان يجب أن يدرك الشرطى هذه الحقيقة ويعامله بشكل أفضل.

هاجت واشنطن وأغلبية سكانها كما نعرف من السود، ونخبتها الحاكمة، كما نعرف أيضا، من البيض.

وقفزت أجهزة الإعلام على الموضوع مستخدمة كل ما فى جعبتها من عناصر الإثارة. تحدثت إلى الشرطى الأبيض الذى روى رواية مختلفة، قال أن الأستاذ سخر منه ومن «أمه». ورفض التحدث بتهذيب فاضطر إلى احتجازه كإجراء عادى يتخذ مع كل من «يتهجم» على شرطى يؤدى واجبه. وسرعان ما انتقل هياج واشنطن إلى كل أنحاء الولايات المتحدة. واستنفرت كل القوى، وأعنى فعلا كل القوى، إمكاناتها للمشاركة فى تصعيد أزمة كان حدوثها متوقعا إن آجلا أو عاجلا فوقعت عاجلا. وبسرعة مدهشة تراجع أوباما، فى سابقة فريدة، واعتذر علنا عن وصفه تصرف الشرطى الأبيض بالغباء. ودعا الدكتور هنرى لويس جيتس أستاذ الجامعة الأسود والضابط الأبيض كراولى من شرطة بوسطون لتناول كأس من الجعة معه فى البيت الأبيض وكله أمل أن تتوقف تداعيات الأزمة ويعود الصفاء إلى واشنطن ومن واشنطن إلى كل أمريكا ليستأنف جهوده المكثفة نحو تمرير مشروع قانون لإصلاح نظام الرعاية الصحية، البند الأول فى أجندة التغيير الذى وعد به الشعب الأمريكى خلال حملته الانتخابية.

****

حادث بسيط كشف عن قضايا عديدة وكبيرة. المعتاد فى الولايات المتحدة أن الشرطى الأبيض يعامل الأمريكى الملون سواء كان من أصل أفريقى أم لاتينى معاملة مختلفة عن المعاملة التى يلقاها الأمريكى الأبيض. أكثر من 80٪ من المواطنين السود واللاتينيين يؤكدون فى استطلاعات الرأى أن الشرطة تتعمد استخدام القسوة معهم وأنه يجرى حبسهم لأن بشرتهم غير بيضاء. لذلك لم يكن الحادث، فى حد ذاته، غريبا أو غير مألوف، ولكنه صار غريبا وغير مألوف عندما تدخل الرئيس أوباما متسرعا فى الحكم ومرتكبا بسبب هذا التسرع ثلاثة أخطاء وصفها أحد علماء السياسة الأمريكية بأنها أخطاء قاتلة لرئيس بالكاد اكتملت شهوره الست الأولى.

كان خطأه الأول أنه تسبب فى الكشف عن خلل فى نظام تدفق المعلومات التى تصل إلى رئيس الجمهورية وفى صدقيتها. خطأه الثانى أنه كرئيس جمهورية ما كان يجب أن يصدر أحكاما بتسرع ودون تروٍ. يقول الممثل المعروف بيل كوسبى «لو كنت رئيسا لأمريكا لأغلقت فمى»، ولا يختلف معه القس الأسود جيسى جاكسون الذى عاب على أوباما تدخله فى الموضوع.

خطأه الثالث أنه فى غمرة العواطف وتأثره بحادث صديقه طرفا فيه، كشف عن تحيزه «الفطرى» أو التلقائى للأمريكيين السود، رغم أنه حاول على امتداد عامين، هما عمر الحملة الانتخابية تجنيب القضية العنصرية وإبعادها عن بؤر الاهتمام السياسى. وعلى الرغم من أهمية وخطورة هذه الأخطاء التى ارتكبها أوباما فى تعامله مع حادث الدكتور جيتس والشرطى كراولى، فإنه يجب الاعتراف بأن الظروف كانت مهيأة لأن يتسبب حادث مألوف بسيط كهذا الحادث فى تداعيات غير مألوفة وغير بسيطة، من هذه الظروف مثلا:

أولا: رشح أوباما قاضية من أصل لاتينى لمنصب خلا فى المحكمة الدستورية العليا. ومنذ اليوم الأول لإعلان الترشيح شنت تيارات محافظة من اليمين المتطرف عنصريا حملة ضد السيدة سونيا سوتوماير هدفها إثبات عدم صلاحيتها للمنصب كونها «تقدمية» وليبرالية وتتعاطف مع «الملونين»، ومازالت الحملة ضدها مستعرة فى وسائل الإعلام وبعض مراكز البحث. كان من بين قادة الهجوم على ترشيحها المرشح الجمهورى الأسبق بات بيوكانان الذى اعترض على ترشيح ملونات وملونين للمحكمة الدستورية العليا قائلا «لماذا ننسى أن ٪100 من الذين وضعوا الدستور الأمريكى كانوا من الرجال ومن البيض، ولماذا ننسى أن ٪100 من الأمريكيين الذين وقعوا على وثيقة إعلان الاستقلال كانوا من الرجال ومن البيض».

ثانيا: خرجت من صفوف الحزب الجمهورى جماعة أطلقت عليها وسائط الإعلام تعبير أهل الميلاد أو الميلاديين Birthers، تنادى بإسقاط الرئيس أوباما لأنه حسب معلوماتها لم يولد فى أمريكا وإنما ولد فى كينيا وبالتالى لا يجوز دستوريا أن يكون رئيسا لأمريكا، وأنه ولد غير مسيحى، أو على الأقل، لا يوجد دليل مؤكد على أنه مسيحى، وأنه ابن غير شرعى لأم أمريكية بيضاء. وعندما قدمت أجهزة الأحوال الشخصية فى هونولولو ما يثبت أنه ولد فيها اتهمته الجماعة المحافظة بتزوير شهادة الميلاد، فقدم صورا للجريدة الرسمية التى تنشر أسماء المواليد وتاريخ ولادتهم.

ثالثا: شنت تيارات متطرفة وتيارات تابعة لجماعات مصالح أجنبية حملات باهظة التكلفة تدعى وقوع حالات تمييز عنصرى ضد البيض فى التعيين للوظائف الرسمية وتهاجم ما يعرف بالتمييز الإيجابى الذى سمح لعشرات الألوف من أبناء الملونين بدخول الجامعات والحصول على منح دراسية، باعتبار هذا النظام موجه ضد مصالح المتفوقين من الشباب الأبيض.

رابعا: سربت أجهزة رسمية قريبة من البيت الأبيض معلومات تفيد بأن الجو السياسى فى واشنطن يعبأ منذ أشهر لإحباط أجندة أوباما التى تحتوى على بنود تنفيذ وعوده الانتخابية، وبخاصة بند إصلاح نظام الرعاية الصحية. ونما إلى إدارة أوباما أن جهودا تبذل من جانب قوى سياسية نافذة لإحباط محاولات تحريك قضية الشرق الأوسط والانسحاب من العراق وتغيير نهج التعامل مع إيران والشعوب الإسلامية كافة.

****

كثيرون بيننا يتصورون أن أوباما مازال يركب مستريحا موجة ناعمة تحمله من نجاح إلى نجاح. هؤلاء مازالوا متأثرين برومانسية الصورة، صورة الفارس الأسمر الذى أقدم على مدينتهم ودخلها ممتطيا حصانا أبيض. أخشى أن تكون هذه الجملة الساحرة السبب الحقيقى وراء أزمات أوباما الراهنة.

فى زحمة اهتمامى بمتابعة قضية الأستاذ جيتس الأسود والشرطى كراولى الأبيض صدمتنى كلمات وردت على لسان مواطن أمريكى متعمق فى دراسة تاريخ التمييز العنصرى فى أمريكا. جاءت كلماته فى صيغة سؤال. قال: ماذا يفعل رجل أسود فى بيت أبيض. لم نعرف من هو الرجل الأسود الذى يقصده. أهو الأستاذ جيتس ومئات الآلاف من السود مثله الذين نجحوا واحتلوا مناصب مهمة ويزاولون مهنا شتى كانت مخصصة للبيض وسكنوا فى ضواحى لم يكن يسكنها إلا البيض واشتروا بيوتا شيدت ليعيش فيها البيض؟

أم يقصد الرئيس باراك أوباما، الرجل الأسود الذى يحتل بيتا أبيض لم يدخله إلا البيض. كتب من واشنطن اندرو سوليفان فى جريدة صانداى تايمز يقول لو أنك سألت أى مواطن أمريكى ماذا تسمى رجلا أسود حاصلاً على الدكتوراه أو وصل إلى منصب الرئاسة فى أمريكا، ستأتى الإجابة سريعة: زنجى. وأضيف أنك لو سألت كبير حاخامات اليهود فى إسرائيل عوفاديا يوسف السؤال نفسه فستكون الإجابة وبالسرعة نفسها.. عبد أسود.

****

أثبتت تطورات الأيام الأخيرة فى الولايات المتحدة أن وجود رجل أسود فى البيت الأبيض لا يعنى نهاية قضية التمييز العنصرى ضد السود، بل لعله يزيدها سخونة وتعقيدا.
جميل مطر كاتب ومحلل سياسي