أدت الزيادة السكانية المهولة والتنمية الاقتصادية السريعة التى شهدتها مصر منذ تسعينيات القرن الماضى إلى تصاعد غير مسبوق فى الطلب على المياه، أدى إلى إضعاف الموارد المائية الشحيحة أصلا فى البلاد. فقد نما عدد سكان مصر بسرعة فائقة بلغ متوسطها نحو 2 فى المائة سنويا، بينما ارتفع متوسط الناتج الإجمالى للبلاد بنحو 4 فى المائة مع بعض التقلبات التى سببتها الصدمات العالمية. وعلى الرغم من أن الحكومات المتعاقبة حاولت السيطرة على معدلات الإنجاب، إلا أنه من المتوقع أن يرتفع عدد سكان مصر من 104 ملايين نسمة فى عام 2021، إلى 160 مليون نسمة فى عام 2050 وهو ما سيضع مصر تحت ضغوط مضاعفة لتوفير احتياجاتها من المياه.
من جهة أخرى، سيضع تغير المناخ ضغوطا إضافية على أنظمة المياه فى البلاد، حيث ستهدد درجات الحرارة المرتفعة ومعدلات هطول الأمطار غير المنتظمة ونوبات الجفاف المتكررة الموارد المائية المصرية تهديدا كبيرا. فمن المتوقع أن يؤدى التغير المناخى إلى تراجع معدلات هطول الأمطار فى البلاد، وهى معدلات شحيحة يتركز معظمها حول ساحل البحر الأبيض المتوسط. أما ارتفاع درجات الحرارة فمن شأنه أن يؤدى إلى مزيد من القصور فى إمدادات المياه فى مصر والإضرار بالإنتاج الغذائى. وقد يرتفع متوسط درجات الحرارة السنوية بمقدار 2.1 درجة مئوية قبل منتصف القرن الحالى وبمقدار 4.4 درجة مئوية قبل نهاية القرن، وسيتواكب هذا الارتفاع طرديا مع تزايد الطلب على المياه اللازمة لرى المحاصيل الزراعية. فالمرجح أن تتطلب المحاصيل الشتوية زيادة تقارب 7.1 بالمائة بحلول عام 2050 وزيادة تصل إلى 13.2 فى المائة بحلول 2100، بينما ستحتاج المحاصيل الزراعية الصيفية إلى زيادة تصل إلى نحو 11 فى المائة فى معدلات مياه الرى السنوية لتتمكن من التغلب على اشتداد الحرارة. بل إن ارتفاع درجات الحرارة فى مصر قد يهدد استقرار سلسلة الإمدادات الغذائية وارتفاع أسعار الحبوب وإلحاق الضرر بالاقتصاد الريفى المعتمد على الزراعة والثروة الحيوانية، حيث سيؤثر ارتفاع درجات الحرارة على أطوال وتوقيتات مواسم النمو وسيقلل من كميات المحاصيل المنتجة وسيغير من طبيعة الأراضى التى كانت تناسب زراعة محاصيل بعينها. باختصار، سيؤدى تواصل ارتفاع درجات الحرارة إلى تغيير جذرى فى القطاع الزراعى ويهدد الأمن الغذائى.
• • •
على مدى العقود الماضية، تمكنت مصر من حماية أنظمة المياه ومن ضمان الأمن الغذائى للمواطنات والمواطنين من خلال واردات المياه الافتراضية والتى تعنى استيراد السلع التى تحتاج للمياه بكثافة كالحبوب ومن خلال الاعتماد على المياه الجوفية وتكنولوجيا التحلية وإعادة التدوير. غير أن واردات مصر الافتراضية تستنزف مواردها فى وقت اقتصادى ومالى صعب، وتحتاج الحلول التكنولوجية إلى إعادة النظر فى أنماط توظيف المياه. فتحلية المياه، وهى حجر الزاوية فى استراتيجية طويلة الأجل تستهدف تخصيص ما يقرب من 50 مليار دولار لتحديث البنية التحتية للمياه بحلول عام 2037 (تستهدف الحكومة المصرية إضافة ١٤ محطة جديدة لتحلية المياه إلى منشآتها الحالية البالغ عددها 82 منشأة)، لن تعالج بمفردها الآثار السلبية للنمو السكانى ولتغير المناخ على أنظمة المياه وعلى القطاع الزراعى.
المطلوب، إذا، هو الإدارة المتكاملة للموارد المائية بحيث تترابط أمور الأمن المائى، والزراعة، والأمن الغذائى، والطاقة، والتكيف مع ارتفاع درجات الحرارة، والزيادة السكانية. فالأخيرة ترتب تصاعد طلب المياه للشرب، ومعها تتصاعد الاحتياجات للرى الزراعى والإنتاج الصناعى ومشروعات الطاقة المتجددة. ثم يرتب التوسع فى استصلاح الأراضى الصحراوية ضغوطا إضافية على الموارد المائية للبلاد. وبمفردها تعمق الزيادة السكانية المستمرة من الضغوط البيئية على القطاعات السكانية الهشة فى المناطق الساحلية، خاصة فى السواحل الشمالية المطلة على البحر المتوسط. ودون أخذ ارتفاع مستويات سطح البحر فى الحسبان، تواجه السواحل الشمالية خطر الفيضانات وتآكل الأرض وتراجعها. ففى بدايات الألفية الجديدة، قدر العلماء المختصون أن ما يقرب من 2.4 بالمائة من «الإقليم المصرى» سيواجه أخطار التآكل لكونه يهبط دون مستويات 10 أمتار فوق سطح البحر، ونبه العلماء آنذاك إلى أن هذه النسبة من أراضى البلاد يقطنها ما يتجاوز ثلث السكان (حول 37.6 بالمائة كانوا آنذاك 25.5 مليون مصرية ومصرى) وإلى أن معدلات كثافتهم أعلى من المتوسط العام فى البلاد وهو ما يضعهم فى مواجهة تحديات بالغة. وحين يضاف إلى تداعيات الزيادة السكانية من جهة والضغوط البيئية من جهة أخرى الخصائص الجغرافية لمصر، ومنها كون نسبة تقترب من 15 بالمائة من دلتا النيل معرضة لخطر الغرق الكامل بحلول 2100 وهو ما يستدعى المواجهة المستمرة.
• • •
لسنا بمفردنا فى هذا الصدد. يعد الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من أكثر أقاليم العالم تضررا حيث يتوقع استمرار ارتفاع درجات الحرارة بها وتحول بعض مناطقها إلى مناطق غير صالحة للحياة البشرية. بل إن نجاح شعوب وحكومات العالم أجمع فى تحقيق أهداف اتفاقية باريس ٢٠١٥ وقمم المناخ كقمة جلاسجو ٢٠٢١ المتعلقة بخفض الانبعاثات الحرارية، لن ينقذ منطقتنا من الارتفاعات الراهنة والقادمة فى درجات الحرارة وأضرارها البالغة مثلما لن يقلل من التفاعلات السلبية بين التغير المناخى وبين المعدلات المتسارعة للنمو السكانى ومحدودية الموارد المائية والاعتماد على موارد الطاقة القابلة للنضوب وغياب الاكتفاء الإقليمى من مواد الغذاء الأساسية والتصحر وموجات الهجرة المتلاحقة. والموجات شديدة الحرارة التى تزايد العدد السنوى لأيامها من ٣ فى ١٩٧٩ إلى ١٣٢ فى ٢٠٢١ تعرض الفئات السكانية الفقيرة والمهمشة وكبار السن فى منطقتنا لأخطار صحية بالغة، من بينها الموت.
يصبح من الضرورى والملح أن تنشط الحكومات من جهة وأن ينشط القطاع الخاص والمجتمع المدنى من جهة أخرى للتعامل على نحو شامل ومتكامل مع ملفات التغير المناخى والضغوط البيئية والزيادة السكانية والموارد المتاحة ومعدلات النمو الاقتصادى والإنسانى اللازمة لتأمين حياة الناس ومصالحهم فى ظل تحديات وجودية وخطيرة.