لم أشعر يوماً أثناء وجودى فى دمشق أننى تركت القاهرة. أذكر أنه منذ لحظة وصولى كانت الابتسامة تكسو وجه كل من أتحدث إليه قبل أن يسأل «حضرتك من مصر؟». فعلى الرغم من الطلاق السياسى بين النظامين المصرى والسورى طوال عقد الألفينات، ظل التقارب على المستوى الشعبى باقيا. وقد شهد هذا العقد اشتراك المصريين والسوريين فى حراك سياسى أحيته كافة التيارات السياسية والأيديولوجية بشكل هدد استقرار النظام السلطوى فى مصر وكسر هيبة النظام الشمولى فى سوريا. فشهدت الفترة التى عرفت بـ«ربيع دمشق» التى بدأت فى سنة ٢٠٠0/٢٠٠1 ازدهار المجتمع المدنى السورى للمطالبة بالحقوق والحريات المدنية والسياسية تشهد عليها العرائض التى رفعت لبشار الأسد فى ٢٠٠٠ و٢٠٠١ ثم ٢٠٠٣ وكان من أهمها إعلان دمشق للتغيير الوطنى الديمقراطى فى ٢٠٠٥. وفى مصر، شهد نفس هذا العقد ظهور حركة كفاية ونداءات لا للتوريث التى كانت تنذر بأن جمال مبارك لن يكون بشار الأسد. واستمرت العلاقات العابرة لحدود الدول ومصالح الأنظمة الحاكمة بين المجتمع المدنى السورى والمصرى تشهد عليها المؤتمرات والتقارير والكتب المشتركة بين نشطاء وباحثى البلدين عن التحول الديمقراطى ووضع حقوق الإنسان فى مصر وفى سوريا.
•••
من الظلم البين أن يتناسى النظام الحاكم فى مصر ربيع دمشق وما تلاه من حراك سياسى اختلط فيه الليبرالى باليسارى بالإسلامى ودفع ثمنه النشطاء السوريون غالياً من حريتهم، وأن يتناسى بدايات الثورة السورية فى مارس ٢٠١١، وأن يقتصر الحديث الرسمى المصرى عن الثورة السورية على أنها صراع مطابق لصراع الثمانينيات بين نظام الأسد وقوى الإسلام السياسى، وبالذات الإخوان المسلمون. أن نقصر النزاع فى سوريا على جانبه الإسلامى هو كأن نقول إن النزاع السياسى فى مصر بدأ فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣ لنرتد به هو أيضاً إلى ما كان عليه الوضع فى التسعينيات من صراع بين سلطة سياسية ذات واجهه ليبرالية ومعارضة إسلامية عنيفة متجاهلين جذور ٢٥ يناير ٢٠١١ وخصوصاً الحراك السياسى الذى تخطى الإطار الإسلامى ليس فقط فى ٢٠١١ وإنما طوال الألفينات.
•••
الموقف الحالى للنظام المصرى تجاه الأزمة السورية متسق داخلياً وخارجياً من حيث رفض تمكين الإسلام السياسى. ولكن هناك فرقًا بين هذا الرفض، وبين التصريح أن موقفى مصر وروسيا متوافقين فى الملف السورى. فالموقف الروسى، وإن تطور مؤخراً، إلا أنه موقف رافض لرحيل الأسد ولم يدن ولو لمرة واحدة استخدام الأسلحة الثقيلة ضد المتظاهرين حتى قبل أن تتسلح الثورة السورية. بصراحة، أتمنى ألا يكون استفزاز الولايات المتحدة الأمريكية بالتقارب مع روسيا على حساب الشعب السورى. ذلك خصوصاً أننا نتقارب مع روسيا فى نفس الوقت الذى تلقى فيه السلطات المصرية القبض على بعض اللاجئين السوريين وترحل البعض الآخر وتترك الباقى فريسة لتجار الهجرة غير الشرعية أو للصورة السلبية التى يرسمها الإعلام المصرى لهم. خرج النزاع فى سوريا بالتأكيد من منطقة الأبيض والأسود، ولكن سوريا التى استنجدت عبر تاريخها ــ نظاماً وشعباً ــ وحتى فى الأزمة الحالية بالدور المصرى، لا تستحق منا أن نتخلى عنها لأننا ننظر إلى النزاع السورى من منظور ما يحدث فى مصر، ولا من منظور العلاقات مع الولايات المتحدة. وليست هذه دعوة إلى التخلى عن الموقف المصرى الذى تدعم رصانته تقارير المتخصصين فى الشأن السورى، خصوصاً من حيث رفض التدخل العسكرى فى سوريا. وإنما هى دعوة للحفاظ على وسطية وعدالة الموقف المصرى تجاه الثورة السورية. كما أن فيه دعوة لكف أيدى أمن الدولة عن اللاجئين السوريين (١٢٨ ألفا وفقاً للأمم المتحدة و٣٠٠ ألف وفقاً للحكومة المصرية) وإلى تنفيذ وعود وزارة الخارجية من حيث تيسير إجراءات استقبال اللاجئين وإقامتهم.
•••
إن مصر بقبولها اقامة نشاط المعارضة السورية على أراضيها منذ الشهور الأولى للثورة، ثم الآن بعد مراجعة الموقف المتطرف الذى تبناه محمد مرسى تجاه القضية السورية، تعد هى الأكثر تأهيلاً فى المنطقة للعب دور الوسيط الإقليمى فى النزاع السورى ولكن بشرطين. الشرط الأول هو استقرار الأوضاع السياسية فى مصر من خلال مصالحة وطنية شاملة تنهى العنف والتطرف من الجانبين. أما الشرط الثانى فهو قدرة السلطات المصرية خلال المرحلة الانتقالية على الحفاظ على هامش الاختلاف بين المواقف المتطرفة لكل من دول الخليج من ناحية، وروسيا من ناحية أخرى. وسيكون الحفاظ على هذا التوازن صعباً فى وقت يحتاج فيه النظام المصرى لدعم كل هؤلاء لكى يظل قائماً، وذلك لعدة سنوات قادمة.
•••
إن سوريا أهم من أن يؤول دور مصر فيها إلى ما آل إليه فى العراق بعد ٢٠٠٣. فإذا اكتمل تحول سوريا إلى بؤرة إرهابية تتصل بالبؤرة العراقية، فسوف تتسع هذه البؤرة بنفس قدر اتساع الأزمة السورية حالياً. بل إن العراق فى ٢٠٠٣ كانت به سلطة أجنبية محتلة تساهم بجيشها على الأقل فى التحكم فى الحدود وفى فرض سيطرة الدولة تدريجياً على الأراضى العراقية. أما فى سوريا، فإنها ستتحول ببساطة إلى الصومال ليسرى الإرهاب منها فى المشرق العربى وصولاً إلى سيناء. ولعلها من المرات القليلة التى أصاب فيها بشار الأسد حينما صرح فى ٢٠٠٥ فى مواجهة التهديدات الأمريكية أن سوريا إن سقطت، فإن كل المنطقة سوف تشهد التوابع، بدءاً بمن ساهموا فى هذا السقوط. وفى حين أن بشار كان يتحدث عن النظام كمرادف للدولة السورية من باب الشمولية، إلا أنه لم يخطئ. إذ أن سيطرة نظام الأسد وشبكات المصالح المتصلة به على مفاصل الدولة السورية منذ ١٩٧١ تجعل الدول السورية، مثل العراقية، مؤهلة للسقوط فى حال الانهيار المفاجئ للنظام. كما أنه أصاب فى أن سقوط سوريا فى الفوضى سوف يعمم الفوضى على كل المشرق العربى وقد يدفع إيران إلى سياسات أكثر عدائية من باب الشعور بالتهديد بسبب فقدان الحليف الوحيد فى العالم العربى وفى ظل التهديد المتزايد الذى يواجهه الحليف العراقى لإيران، نورى المالكى.
•••
فى نفس الوقت، فإن تبنى الموقف الروسى الرافض لسقوط الأسد يحمل مصر الذنب الأدبى فى التخلى عن الثورة السورية ويعد بمثابة ختم الموافقة على تسليم الشعب السورى للتطرف الإسلامى وإلى استمرارية الصراع إلى ما لا نهاية فى ظل استمرار الدعم المادى والعسكرى الإقليمى والدولى للمعارضة السورية . كما أن مساندة نظام الأسد بشكل صريح، قد تؤدى فى مصر إلى ما تشهده لبنان اليوم من تفجيرات وعمليات إرهابية انتقامية نتيجة لهذه المساندة وبفضل الشبكات الإرهابية العابرة للحدود فى المنطقة. أضف إلى ذلك أن بقاء نظام الأسد يعنى استمرار الانقسام الحاد بين الدول العربية وإلى حالة مشابهة بحالة العراق وليبيا خلال التسعينيات، أى بقاء سوريا فى حالة عزلة وحالة موت بطىء تحت وطأة العقوبات الأمريكية والأوروبية والعربية. هذا بالطبع فى حال لم يتحول بشار إلى القذافى الذى يمول فعلياً عمليات إرهابية ضد الأنظمة التى تساند المعارضة، بدءاً بالحليف العربى الأول لمصر، دول الخليج.
الشعب المصرى الذى نصب خيمة للثورة السورية ورفع علمها فى ميدان التحرير، وأى نظام سيحكم مصر بعد أكثر من ألف شهيد سقطوا فى سبيل الحرية والكرامة، سيعيبهما أن يتخليا عن سوريا لأن إسلامييها، كإسلاميى مصر، اغتصبوا الثورة. لا يجب أن نتخلى عن سوريا، لأجل مصر ولأجل سوريا.