ربما لم ينتبه كثيرون ممن استفزهم حديثنا عن كراهية رجال يوليو 1952 لثورة 1919،وأسباب تلك الكراهية إلى فارق أساسى بين الثورتين، هو أن الثورة الأولى (زمنيا) لم تتمكن من السلطة بالمطلق، وإن تمكنت من الحكم أحيانا، ولفترات جد محدودة، مشاطرة مع القصر الملكى، والسفارة البريطانية، طبقا لنظرية الكرسى ذى القوائم الثلاثة، التى صاغها لورد كليرن (سير مايلز لامبسون ) المندوب السامى البريطانى فى مصر، وأشهر خلفاء لورد كرومر، بينما تمكنت ثورة يوليو 1952 من السلطة والحكم، بل والتحكم فى كل صغيرة وكبيرة فى مصر، بعد خلع الملك، وإجلاء الاحتلال البريطانى، وتصفية الإقطاع، ووكلاء الرأسمالية العالمية، وهذه كلها إنجازات وطنية كبيرة تحسب لثورة يوليو، وزعيمها جمال عبدالناصر.
إذا انتبهنا إلى وجه الاختلاف المهم هذا بين الحالتين، فيجب أن يكون الحكم على كل منهما بالنجاح أو الفشل بهذه النسبة أو تلك هو الإجابة عن السؤالين التاليين: ما الذى كانت تستطيع ثورة 1919 أن تنجزه، ولم تفعل، بالقدر المحدود من السلطة الذى حصلت عليه؟و ما الذى كانت تستطيع ثورة يوليو أن تنجزه بالقدر الهائل من السلطة الذى تمكنت منه، ولم تفعل، أو أساءت الفعل؟!
قبل الإجابة ينبغى تسجيل الملاحظات التالية:
أولا لا يعيب ثورة 1919 وزعماءها أنها لم تستطع الحصول على السلطة كاملة، فذلك لم يكن فى مقدورها طبقا لموازين القوة الداخلية والعالمية، ففى الداخل لم يكن مطروحا، فضلا عن أن يكون ممكنا الإطاحة بالملكية، بل كان المطروح والممكن هو تحويلها إلى ملكية دستورية، وعلى الجبهة العالمية لم تكن الموازين الدولية تجبر بريطانيا على الجلاء عن مصر، بل كان العكس هو الصحيح، إذ اتفق الحلفاء المنتصرون فى الحرب العالمية الأولى بقيادة بريطانيا ذاتها على ترك علاقتها بمصر شأنا خاصا بها. ثانيا لسنا ممن يرون تناقضا جذريا، واستقطابا صفريا بين ثورة 1919 وثورة يوليو 1952 من المنظور الوطنى، بل نراهما متكاملتين، كما أننا نرفض منهج الإدانة الشاملة، وتركيز الخير المطلق فى جانب، والشر المطلق فى الجانب الآخر، ومن ثم نعترف بالإنجازات الوطنية والاجتماعية والتنموية لثورة يوليو خاصة فى عقدها الأول، كما نفخر بدورها الرائد فى هزيمة الاستعمار القديم، ودعم حركات التحرر الوطنى عربيا وإفريقيا وعالميا . ونرى أن إنكار هذه الإنجازات، أو تشويهها مرفوضان أخلاقيا ووطنيا، فضلا عن كونهما غير صحيحين تاريخيا، وعليه فإن أفضل تصور للعلاقة بين الثورتين هى العلاقة الجدلية (بالمعنى الفلسفى) أى إنها علاقة تشتمل على التكامل والتناقض فى آن معا، بغض النظر عن المتحيزين ليوليو فقط، أو لثورة 1919 فقط.
ثالثا إذا كان فريق من المنحازين ليوليو فقط يروجون لمقولة أنها انتهت بوفاة جمال عبدالناصر، وبانقلاب خليفته أنور السادات على مبادئ وسياسات جوهرية للحقبة الناصرية، فإننى أرى ضرورة التفريق هنا بين الثورة وقيمها وبين النظام السياسى الذى أسسته هذه الثورة، وبناء على ذلك، ودون الانجراف إلى استقطاب آخر بين الناصريين والساداتيين، فإن الحقيقة الساطعة تقول إن ما يسمى بانقلاب السادات على ثورة يوليو جرى باستخدام نظامها نفسه، بمؤسساته وبقواعده الدستورية، وبمصدر أو مصادر قوته، وبالعرف السلطوى فوق الدستورى الذى مارسه ناصر قبل السادات، وكذلك بمنهجه فى صنع السياسات واتخاذ القرارات. إذن لا يجوز منطقيا التعامل مع ثورة يوليو 1952، وخاصة فيما ما يتعلق بمسألة نظامها السياسى على أنها الحقبة الناصرية فقط، علما بأن هذه الحقبة نفسها شهدت الكثير من السلبيات الخطيرة، النقيضة كلية لإرث ثورة 1919، مثل الاعتقالات والتعذيب، وسائر القيود على الحريات، وتقزيم المجتمع المدنى، وتقديم الولاء على الكفاية فى الإدارة العامة والجزئية، تطبيقا للفلسفة السلطوية.
نعود الآن إلى السؤالين الرئيسيين، ولكن قبل الإجابة علينا تعريف النجاح، وتعريف الفشل فى حالة الثورات.
التعريفات كثيرة بعدد زوايا النظر، ومنها الاستقلال الوطنى والأمن القومى، والوزن الإقليمى والوزن الدولى، ومنها النمو الاقتصادى ومستويات المعيشة، وعدالة توزيع الثروات والدخول، وحريات وحقوق المواطنين، والمواطنة، وأخيرا وليس آخرا معيار التنمية البشرية مشتملا على التعليم والثقافة والصحة، ومهارات العمل، وملكات الإبداع. يضاف إلى ذلك عند الحديث عن الثورات تحديدا مبادؤها المعلنة، والمهام التى تناط بها، خاصة إذا حظيت هذه المبادئ بالتأييد الشامل من الجماعة السياسية. طبقا لهذه الحيثيات فإن القدر الذى حصلت عليه ثورة 1919 من السلطة لم يكن ليمكنها من تحقيق كل هذه الإنجازات، فهى كما رأينا لم تقم نظاما سياسيا تنفرد فيه بالسلطة (الدستورية الديمقراطية)، ففى سنواتها الأولى دأب القصر الملكى وحلفاؤه على منازعة حزبها وزعيمها حق التفاوض حول الجلاء، وعندما تولى زعيم الثورة سعد زغلول رئاسة الحكومة المنتخبة عصفت بها حادثة اغتيال السردار، ثم توافق القصر مع الاحتلال على إبعاد الرجل عن منصب رئيس الوزراء طيلة حياته، وعندما توافقت النخبة السياسية على ائتلاف الأحزاب حلا لهذه المعضلة انتهز الملك وأحزاب الأقلية فرصة وفاة سعد زغلول لإسقاط الائتلاف استصغارا لشأن مصطفى النحاس خليفة سعد، وظنا أن الوفد انتهى بوفاة زعيمه الأول وزعيم الثورة، وهكذا تجددت جولات الصراع لحرمان ثورة 1919 من المشاركة فى السلطة، ثم القبول مؤقتا بهذه المشاركة كلما تأزم الوضع الداخلى أو الدولى، لتستمر هذه «اللعبة» حتى سقوط النظام كله أمام ضباط يوليو. ومع كل ذلك فمن المجافاة لحقائق التاريخ اتهام ثورة 1919 بالفشل على صعيد القضية الوطنية، وعلى صعيد القضية الدستورية، فقد أنهت هذه الثورة نظام الحماية البريطانية على مصر، وأجهضت مشروع تحويلها إلى إحدى مستعمرات التاج البريطانى بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وحددت أجلا زمنيا للقاعدة العسكرية البريطانية، وألغت الامتيازات الأجنبية.
وعلى الصعيد الدستورى أقرت حكم القانون ودولة المواطنة، وأطلقت طاقات المجتمع المدنى فى كل الاتجاهات، وكذلك أطلقت قوة الرأى العام، وفعلت مبدأ مساءلة الحكام بدرجة كبيرة، وبالإجمال أدخلت الشعب طرفا رئيسيا فى معادلة الحكم والسياسة، بما لم يمكّن أية أقلية، أو انقلاب دستورى من الاستقرار والبقاء فى السلطة فى هذه النقطة الأخيرة بالذات أى نقطة الحكم الدستورى، والمشاركة الشعبية، يتمثل التناقض الأساسى بين الثورتين، مثلما يتمثل فى أن ثورة يوليو التى امتلكت السلطة بحذافيرها جعلت سلطتها فوق الشعب كله، بما مكنها عبر عهودها المختلفة من تفادى أى شكل من أشكال المساءلة عن إخفاقاتها، ولو قياسا على مبادئها الستة الشهيرة، ولننظر الآن ما الذى تحقق من هذه المبادئ، وما الذى لم يتحقق (مثل الحياة الديمقراطية السليمة)، ولننظر أيضا ما الذى تحقق فى البداية، أو تحقق جزء منه، ثم أجهض تاليا (مثل العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية).
قصارى القول إنه لم يكن بوسع ثورة 1919 الكثير لتفعله ثم تقاعست عنه، أو أخفقت فيه، فيما كان بوسع ثورة يوليو الكثير والكثير لتفعله فأصابت فى بعض، وأخفقت فى آخر، وأساءت فى بعض ثالث، وإنا لمنتظرون.