بحكم الجغرافيا والتاريخ فإن مصر هى دولة بحرية عريقة، وبحكم الاستراتيجية والسياسة والاقتصاد فإن الواقع والمستقبل يحتم علينا ذلك ويفرضه، ولا سيما مع الموقع الجغرافى الفريد لمصر، وعندما نتحدث عن قناة السويس فإننا يجب أن نتناولها برؤية استراتيجية شاملة، فتاريخ قناة السويس منذ بدء حفرها عام 1859 وهى تمثل ملحمة تاريخية خالدة فى وجدان كل مصرى ومصرية.
قناة السويس هى أهم ممر ملاحى فى العالم تمر عبره 20% من حركة التجارة العالمية، وما نشير إليه ليس بالأمر الهين، فأسطول النقل البحرى العالمى يقوم على شركات ملاحية كبرى تتجاوز ميزانية الشركة الواحدة منها ميزانية عدة دول مجتمعة، كما أن أنواع السفن نفسها من ناقلات النفط والغاز الطبيعى وسفن الحاويات وناقلات الصب العملاقة لنقل المعادن والحبوب، وتطوراتها التكنولوجية والتصميمية المتلاحقة، فضلا عن التقلبات والدورات الاقتصادية العالمية وحركة الأسواق، جميعها أمور ليست هينة.
التحديات المتلاحقة التى يفرضها الواقع العالمى لا تنتهى على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية، وعندما يكون كيان عملاق مثل قناة السويس هو شريان التجارة البحرية العالمية الرئيسى، فمن المؤكد أنه سيكون عرضة للمتغيرات والتحديات، وهنا فإن القدرة على رصد واستيعاب المتغيرات ومواجهة التحديات ستكون هى الفيصل فى النجاح والاستمرار.
• • •
منذ عقود طويلة وهيئة قناة السويس تدرك أن طريق رأس الرجاء الصالح هو طريق بديل منافس برغم أن عامل المسافة واستهلاك الوقود والزمن والسلامة هى جميعا فى صالح قناة السويس، إلا أن السياسات التى تم انتهاجها أمنت المكانة الهامة لقناة السويس، ووضعت طريق رأس الرجاء الصالح فى حجمه الحقيقى وأفسدت مناورات الشركات الملاحية العالمية لتهديد قناة السويس بالتحول إلى هذا الطريق.
وفى مرحلة لاحقة تم طرح مشروع الشرق الأوسط الجديد، وفى إطاره ظهرت التحديات صريحة ودون مواربة باقتراح الكيان المجاور ميناء حيفا كميناء رئيسى محورى فى شرق البحر المتوسط، ثم تم طرح عدد من المشروعات تقترح حفر قناة ملاحية من خليج العقبة إلى ساحل البحر المتوسط، ثم طرح مشروع آخر لخط سكك حديدية مزدوج لنقل البضائع والحاويات بين إيلات وأشدود، عند هذه المرحلة باتت الأمور تنذر بما لا يحمد عقباه.
لكن الدولة المصرية وخبراءها وأجهزتها لم يغب عنها للحظة ما يحدث، ففى تلك المرحلة تماما أسست مصر ميناءيها العملاقين فى شرق بورسعيد وفى شمال السخنة، ولم تنقضِ أعوام قليلة إلا وبات ميناء شرق بورسعيد هو الميناء الأكبر فى شرق البحر المتوسط، بينما بات ميناء شمال السخنة ثانى أكبر ميناء فى البحر الأحمر.
وعلى مستوى قناة السويس، كان مشروع قناة السويس الجديدة فيما بعد حاسما فى الحفاظ على القدرة التنافسية لقناة السويس كأهم ممر ملاحى فى العالم، بإنشاء قناة جديدة موازية للأصلية بطول 72 كيلومترا، فكان لها تأثير قاطع فى تقليل زمن انتظار السفن وزمن العبور، كما تضمن المشروع إقامة مطارين جديدين، وثلاثة موانئ، ومحطات لتموين السفن العملاقة إلى جانب منطقة ترانزيت عالمية للبضائع.
إلى جانب الأبعاد التنموية لهذا المشروع فقد كانت له أبعاده الاستراتيجية، بعد أن أسفرت التغيرات البيئية فى العالم عن ذوبان كتل هائلة من جليد المحيط المتجمد الشمالى، والاهتمام الصينى والروسى بفتح طرق ملاحية جديدة فى أقصى شمال الكرة الأرضية باستخدام كاسحات الجليد العملاقة وبعضها يعمل بالطاقة النووية، وهو ما شكل تحديا جديدا لقناة السويس، وما زال العديد من الخبراء يعدونه تحديا قائما، قد ينذر بتحول جزء من حركة السفن والبضائع من الشرق الأقصى متخذة ذلك الطريق الجليدى إلى أوروبا وأمريكا الشمالية.
وفى ذات الإطار، ظهر تحدٍ آخر بعدما قامت روسيا بوضع خطة طموحة لتجديد وتطوير خط سكك حديد سيبيريا التاريخى الممتد من مدينة فلاديفوستوك فى الشرق الأقصى إلى غرب روسيا ومنها إلى شرق ووسط وغرب أوروبا، ومن جهتها وعلى ذات الاتجاه قدمت الصين للعالم مبادرة الحزام والطريق، وهى مشروع اقتصادى عملاق لإحياء طريق الحرير التاريخى، الحزام يشير إلى الطريق البرى والسكك الحديدية، الممتدة من الصين مخترقة آسيا الوسطى إلى أوروبا، بينما الطريق يشير إلى الطريق البحرى من الصين إلى جنوب شرق آسيا إلى المحيط الهندى ومنه إلى البحر الأحمر ثم قناة السويس إلى أوروبا.
وفى أقصى الغرب، ظهر تحدٍ جديد وهو إتمام مشروع توسعة قناة باناما وافتتاحه منذ أعوام قليلة، وأسهم ذلك المشروع بدرجة كبيرة فى زيادة القدرة الاستيعابية لقناة باناما على اجتذاب السفن والناقلات ذات الحجم والحمولة الأكبر التى لم يكن ممكنا استقبالها من قبل، مما حسن القدرة التنافسية لقناة باناما فى مواجهة الممرات الملاحية الرئيسية العالمية وفى مقدمتها قناة السويس، واجتذاب المزيد من حركة سفن الشركات الملاحية بين الشرق الأقصى وجنوب شرق آسيا من جهة وبين الساحل الشرقى للأمريكتين وأوروبا للمرور عبر قناة باناما.
• • •
فى ظل تلك التحديات الجسيمة، وفى ظل الدورات والتقلبات الاقتصادية العالمية، وتقلبات أسعار النفط والغاز، وفى ظل الحروب والصراعات الدولية والإقليمية، والأحداث مثل التوترات فى الخليج العربى، والقرصنة فى خليج عدن، والنزاعات فى مضيق باب المندب، وأخيرا الحرب الروسية الأوكرانية، جميعها مؤثرات سلبية على صناعة النقل البحرى العالمى الشديدة الحساسية لها، ومن ثم تأثيرها الارتدادى السلبى على قناة السويس وحركة السفن بها، وجعل إيراداتها عرضة للتقلبات الشديدة والانخفاض.
من أجل ذلك كان لا بد من وضع رؤية استراتيجية جديدة لقناة السويس، وتطوير دورها التقليدى كممر ملاحى عالمى إلى دورها المستقبلى كمركز اقتصادى عالمى، يقوم على منظومة متكاملة من المشروعات والأنشطة الاقتصادية والإنتاجية والصناعية والتجميعية والإلكترونية وخدمات القيمة المضافة والخدمات اللوجيستية، واجتذاب الشركات العالمية الكبرى والمستثمرين بقدراتهم المالية والتكنولوجية، لتأسيس مركز اقتصادى عالمى بمنطقة قناة السويس.
لكى تتحقق هذه الرؤية كان لا بد من صياغة الإطار التشريعى والقانونى لها، ارتكازا إلى حقيقة راسخة تطمئن بها القلوب، وهى أن المادة 43 من الدستور المصرى تنص على أن «تلتزم الدولة بحماية قناة السويس وتنميتها، والحفاظ عليها بصفتها ممرا مائيا دوليا مملوكا لمصر، وتلتزم الدولة بتنميتها باعتبارها مركزا اقتصاديا متميزا».
وبحيث تسعى هيئة قناة السويس من خلال تأسيس صندوق تنمية القناة لزيادة قدرتها التنموية والتطويرية بالاستغلال الأمثل لأمواله وموارده وفق أفضل المعايير والقواعد الدولية لتعظيم قيمتها، والقيام بجميع الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية بما فيها تأسيس الشركات وزيادة رءوس أموالها والاستثمار فى الأوراق المالية، وبحيث يكون للصندوق موازنة مستقلة، يتبع فى إعداد القوائم المالية لها معايير المحاسبة المصرية، مع خضوع كافة حسابات الصندوق والحسابات الختامية له لرقابة الجهاز المركزى للمحاسبات.
هكذا باتت الصورة أكثر وضوحا، التحديات القائمة تفرض وتحتم التحرك والمبادرة الفورية، وتوجه الدولة لتأسيس صندوق قناة السويس يأتى فى الوقت المناسب، أما ما جاء حول الحدث من حديث، فكان فى معظمه تساؤلات مشروعة لأبناء هذا الوطن العزيز تنبع من حبهم لبلادهم، وحرصهم على قناة السويس التى تمتد إلى قلب كل مصرية ومصرى وتسكن وجدانه، وقد أحسنت الدولة ووفقت فى إيضاح الأمر بشفافية ووضوح.
إن التحديات كبيرة لكن مصر أكبر بعون الله وتوفيقه.