بعيدا عن البريكست، يواجه الاتحاد الأوروبي سلسلة من الإشكاليات المؤسسية والسياسية التي تهدد وجوده. فلم يعد في الإمكان إدارة مؤسسات الاتحاد التنفيذية وبيروقراطيته المتمثلة في المفوضية الأوروبية وفقاً للمبادئ المتبعة منذ البدايات الأولى في عام 1951 (معاهدة باريس المنشئة للجماعة الأوربية للفحم والصلب). فمبدأ الإجماع كشرط لاتخاذ القرارات في مجلس رؤساء الدول والحكومات الأعضاء (المجلس الأوروبي) ومبدأ صوت واحد لكل عضو يتجاهلان اختلاف الأوزان النسبية بين الدول الكبيرة والصغيرة. فحين كانت عضوية المؤسسات الأوروبية قاصرة على دول ست بدأت تجربة الاندماج في النصف الثاني من القرن العشرين وتوافقت ضماناً لمصداقية البدايات على المساواة التامة فيما بينها لم يشكل الوصول بصورة عقلانية إلى إجماع حول القضايا الرئيسية والتي كانت بالأساس اقتصادية الطابع معضلة حقيقية. أما خبرة السنوات القريبة الماضية فجاءت، خاصة مع الزيادة المطردة في عدد الأعضاء وتعقد وتوسع مساحة القضايا المطروحة أمام مؤسسات الاتحاد، معبرة عن جوهر مغاير رتب في سياق تعنت هذه الدولة أو تلك في الدفاع عن مصالحها الوطنية وتغليبها الأخيرة على المصلحة الجماعية شل فاعلية الاتحاد والحيلولة دون اتخاذ قرارات حيوية. في النصف الثاني من التسعينيات، أعاقت إسبانيا على سبيل المثال تقدم مفاوضات انضمام الأعضاء الجدد من وسط وشرق وجنوب القارة خشية تراجع حجم المساعدات المقدمة لها من جانب الاتحاد بينما ابتزت لندن العواصم الأخرى طويلاً من خلال معارضة معظم القرارات الأوروبية حتى صار الأمر إلى التخارج البريطاني. كذلك يصعب تصور أن تتساوى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبولندا بأهميتها التاريخية والاستراتيجية مع جزر صغيرة كمالطة وقبرص أو مع دول قليلة السكان مثل ليتوانيا ولاتفيا بمنطق صوت واحد وحق فيتو لكل دولة. البحث عن أسلوب ديمقراطي لتحقيق ذلك دون أن تشعر الدول الأضعف بانتفاء حقها في الاختيار وبهيمنة الدول الكبيرة على مقدراتها السياسية والاقتصادية هو التحدي المطروح على الاتحاد باستمرار والذي يزداد خطورة بسبب وجود العديد من الحساسيات بل والمخاوف التقليدية بين الشعوب والدول الأوروبية. فجمهورية التشيك والنمسا وهولندا على سبيل المثال لديهم مخاوف قديمة ومشروعة بحكم التاريخ من الهيمنة الألمانية، في حين ترى إسبانيا والبرتغال وأحيانا إيطاليا في السياسة الفرنسية محاولة مستمرة للسيطرة على شئون القارة أو على الأقل ادعاء التحدث باسم جنوبها.
***
من جهة ثانية، يشكل تطوير الهياكل المؤسسية للمجلس الأوروبي والبرلمان الأوروبي على نحو يستجيب لتحديات العدد الكبير للأعضاء ويؤكد الطابع الديمقراطي للاتحاد تحديا إضافيا. في هذا الصدد، تطرح تساؤلات مشروعة عن مدى واقعية وفاعلية الممارسة الأوروبية القائمة على حق كل عضو في أن يمثل على الأقل بمفوض في المجلس وعن كيفية إشراك البرلمانات الوطنية، وهي الأقرب إلى المواطنين، في عملية اتخاذ القرار على مستوى الاتحاد على نحو يقلل من طابعه البيروقراطي الذي تصاعدت موجات انتقاده في الآونة الأخيرة. فحقيقة الأمر أن عمل المؤسسات الأوروبية يغلب عليه الطابع البيروقراطي وغياب الشفافية في ظل غابة من القوانين شديدة التعقيد المنظمة للجوانب الاقتصادية والمالية والاجتماعية للاتحاد والتي لم يعد بإمكان المواطن الأوروبي فهمها بسهولة. ثم هناك المشكلة المزمنة المتمثلة في تعارض الاختصاصات بين المفوضية وحكومات الدول الوطنية خاصة فيما يتعلق بتنظيم سوق العمل والنظام الضريبي والقضايا المرتبطة بالعملة الموحدة والسياسة النقدية، وهي تلك المشكلة التي ينفذ منها اليمين المتطرف والشعبوي لتشكيك الأوروبيين في شرعية الاتحاد والدعوة إلى إعادة الاعتبار للسيادة الوطنية. فعلى الرغم من النجاحات الأوروبية المتتالية في تطوير آليات اندماجية جديدة إلا أن عدم استعداد الدول الأعضاء للتخلي عن حقوقها السيادية يرتب صراعات مستمرة بينها وبين الاتحاد حول العديد من التفاصيل، ويصبح الأمر أكثر سوءا بجنوح بعض الدول مثل ألمانيا في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة لفرض إرادتها على غيرها من الدول الأعضاء.
من جهة ثالثة، تختلف الثقافة السياسية للنخب الأوروبية فيما يتعلق بمسألة السيادة الوطنية. فقد تطورت لدى الأعضاء القدامى على وقع خبرة حربين عالميتين خاضتهما القوميات الأوروبية المتطرفة رؤية للسيادة تصنفها في مرتبة ثانية بعد هدفي الاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي على نحو مكن دول مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا في ظل الليبرالية السياسية واقتصاديات السوق من التعاطي العقلاني والخلاق مع التنازلات المستمرة عن حقوق أصيلة لها في مجالات السياسة النقدية والتجارية ونظم الضمانات الاجتماعية وقضايا الأمن والحدود فاتحة بذلك الباب أمام الاندماج الإقليمي. غير أن ذات الدول تعود نخبها اليوم على وقع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية للتشكيك في التنازلات التي قدمت باسم الاندماج. أما دول أوروبا الشرقية والوسطى فظلت بعيدة عن هذه التجربة. بل أن إرث الهيمنة السوفيتية عليها رتب في أعقاب التحولات الديمقراطية في تسعينيات القرن العشرين وصول ائتلافات حاكمة في هذه البلدان اتسم خطابها السياسي بالنزعة القومية الواضحة كما في بولندا والمجر على سبيل المثال. الحال إذا هو أن الاتحاد الأوروبي يواجه في اللحظة الراهنة تحديا جوهريا بحكم التناقض بين منطقين، تخطي حواجز السيادة الوطنية وتصاعد مستويات الاندماج في القارة وصولا إلى حلم أوروبا الموحدة من جهة والمحافظة على الدول الوطنية والتنازل فقط عن ذلك الحد الأدنى من حقوق السيادة الذي يسمح ببقاء الاتحاد.
***
من جهة أخيرة، ثمة مرحلة جديدة من الصراع حول الجوهر الأخلاقي والمجتمعي للنموذج الأوروبي بدأت على وقع صعود اليمين المتطرف وتفاقم قضايا الفقر والتوزيع غير العادل للدخل بين قطاعات السكان ومسألتي الهجرة واللجوء. فمن المعروف أن تجربة الاندماج الأوروبي بدأت في سياق النجاحات المتتالية "لدولة الرفاه" في الشطر الغربي في بناء اقتصاديات سوق ذات بعد اجتماعي ونظم متكاملة للرعايا المجتمعية وتنظيم ليبرالي ديمقراطي للمجال السياسي دفع بتقاليد الإنسانية والعلمانية الأوروبية إلى الواجهة. دولة الرفاه هذه دخلت منذ النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين في سلسلة من الأزمات الاقتصادية بحكم تراجع معدلات النمو والسياسية في ظل تصاعد الخطاب الليبرالي الجديد الرافض للجانب الاجتماعي في التجربة الأوروبية ثم صعود اليمين المتطرف. فقد هيمنت الليبرالية الجديدة ومنطق اقتصاد السوق المتجرد من الاعتبارات المجتمعية والباحث على الدوام عن مواطن العمالة الرخيصة على التسعينيات، واليوم تهيمن قضايا الهجرة واللجوء التي يصدرها اليمين المتطرف كأصل كل الأزمات على الفضاء العام وتتراجع بعنف الثقة في دولة الرفاه العادلة اجتماعيا والقادرة على حماية القيم الإنسانية في مواجهة النزعات القومية والعنصرية.