الجامعة وحال المجتمع! - أكرم السيسى - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 4:03 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الجامعة وحال المجتمع!

نشر فى : الثلاثاء 30 أبريل 2019 - 10:00 م | آخر تحديث : الثلاثاء 30 أبريل 2019 - 10:00 م

صدمتنا وسائل التواصل الاجتماعى، فى الأيام الأخيرة، بحادثتين مؤلمتين فى جامعتين مصريتين عريقتين، لم تَهُزا فقط أركان الأوساط الأكاديمية، ولكنها زلزلت أركان المجتمع بأسره! وقد كان تأثير الحادثتين قويا لأن الجامعة ــ بشكل عام ــ تمثل مصدر العلم والمعرفة والثقافة، ومبعث التنوير، فهى التى تعمل على إصلاح كل اعوجاج أو انحراف فى المجتمع، فالجامعة هى البنك الذى يمد المجتمع بالعلم وبالتنوير وبالإصلاح وبالفكر السليم ذهنيا ونفسيا وبدنيا.

خرجت الحادثتان من أعرق جامعتين: الأولى من جامعة الأزهر الشريف، والثانية من جامعة القاهرة العتيدة.

تعتبر جامعة الأزهر أقدم جامعات العالم، وتاريخها تعدى الألف عام، أُنشأت عام 970م، كانت وما زالت مصدر التنوير، ليس فى مصر فقط، ولكن فى العالمين العربى والإسلامى، وفى قارتى إفريقيا وآسيا، ويأتى إليها من أوروبا الطلاب والباحثون ليتلقوا فيها العلم الأصيل.
قدم أستاذان بها أغرب نظريتين، كان لهما صدى مدويا فى المجتمع، الأولى كانت فى 2007م، عندما فجر رئيس قسم الحديث بكلية أصول الدين مفاجأة، حيث أباح للمرأة العاملة أن تقوم بإرضاع زميلها فى العمل منعا للخلوة المحرمة، وقد سميت بفتوى «إرضاع الكبير» التى ليس لها علاقة بأصول الدين! والثانية ــ منذ أيام قليلة ــ قام أستاذ عقيدة وأخلاق بكلية التربية فى محاضرة بعنوان «الإسلام والإيمان والإحسان» بإجبار طلابه على خلع ملابسهم مقابل النجاح! وبرر فعلته بأنها شرح عملى لـ«الحياء»!، فكان الطلب مسيئا للإسلام وللإيمان وللإحسان، كما لم يكن له علاقة بالحياء! ولا نستطيع أن نصف الحادثتين إلا بأنهما انحراف عقلى وسلوكى للأستاذين.

وفى جامعة القاهرة، منذ أيام قليلة، قام السيد رئيس الجامعة بإلقاء خطاب، وسط جمع من الطلاب، هو فى رأيى خطاب «شعبوى»، يتناقض كلية مع الأعراف الأكاديمية فى الوسط الجامعى! كان الخطاب مليئا بالوعود كإجازة من 25 إلى 29 إبريل، وبالمنح المالية، فأمر بإعفاء طلاب المدن الجامعية من مصاريف شهر رمضان، وإلغاء مديونياتهم نحو الجامعة، ثم قال: «فيه ولاد من ولادنا بيعيدوا السنة على مادة أو مادتين، ينفع الكلام ده؟، (لأ)، 5 % لكل طالب فى البكالوريوس والليسانس،.. احنا هنخرجك وخلى 5 % على جامعة القاهرة»، ألا يقلل هذا من المستوى العلمى أمام العالم أجمع؟!

هذا الأمر جعلنا نبحث عن دور المعلم عند أداء وظيفته، فهو مثله مثل القاضى والإعلامى، فحن نرى أن هذا التجاوز جاء نتيجة عدم الحياد، فتدخل السياسة فى المؤسسات التعليمية من شأنه أن يضعف من مستواها، وبالتالى من مستوى خريجى هذه الجامعات، فضلا عن أنه يقدم منتجا لا يثق فيه سوق العمل ــ داخل وخارج مصر ــ الذى هو أحد أهم مصادر الدخل القومى! فاستقلال القضاء والإعلام عن السلطة التنفيذية، وابتعاد التعليم عن السياسة، فيه حماية لهم وللمجتمع، لأن تَدَخُل السياسة فيها كتدخل الدين فى السياسة، من نتائجهما حالة من العبث تعم فى كل المجالات!

يجب أن نعلم جميعا أن حياد القاضى والإعلامى والمعلم ضرورة تُؤَمِّن استقرار المجتمعات، وتعمل على نهضتها؛ هى حقا ثلاث مهن مختلفة، ولكن يجمعها صفات مشتركة، لابد من توافرها حتى تحقق كل وظيفة مهامها على أكمل وجه، أهمها الحياد والأمانة فى الأداء، وهى تمثل أيضا ثلاثة أشخاص يعيشون فى المجتمع مثل الآخرين، يمارسون حياتهم اليومية بشكل يكاد يكون متطابقا، كما أنهم يتفاعلون مع مشكلات وآمال المجتمع مثلهم مثل غيرهم، لكل منهم رؤيته ووجهة نظره الخاصة به، ولكن رؤاهم ووجهات نظرهم يجب حتما أن تكون بعيدة كل البعد عن ممارسة وظائفهم.

من الشروط الأساسية للتقاضى من أجل تحقيق العدل فى أجمل صوره أن يتمتع القاضى بالاستقلال التام، فلا ينبغى أن يتبع بأى شكل من الأشكال لأى سلطة تنفيذية، ولا أن يخضع لأى رقابة برلمانية، ولهذا فإن كل دساتير العالم تنص صراحة على استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وهذا لا يمنع القاضى من ممارسة حياته الطبيعية مثل كل أفراد المجتمع، ولكن ليس من حقه أن يصرح بها فى أى وسيلة إعلامية إلا فيما يخص القانون وتطبيقاته.

ولا ينبغى على القاضى أن يكون مستقلا فقط، ولكن يجب أن يلتزم الحياد التام لحظة أدائه مهامه الوظيفية، فالمنصة التى يجلس عليها أمام المتخاصمين لها قدسيتها ومهابتها، فلا ينبغى أن يعبر عن رأيه أو مشاعره نحو أى مشكلة من مشكلات مجتمعه، أو عواطفه نحو أى شخص مهما بلغت شهرته أو منصبه فى الدولة، ولا ينبغى أيضا أن يكشف عن انتماءاته السياسية، أو عقائده الدينية والفكرية، أو غيرها، لأنه من الممكن أن يحكم بين متخاصمين من مذهبين أو عقيدتين دينيتين مختلفتين، ودون ذلك فالقاضى يفقد حياده وبالتالى يصبح حكمه به عوار.

وكذلك الإعلامى.. ونحن لا نقصد هنا الصحفى ولا مقدم البرامج ذات الصبغة الشخصية التى ينقل فيها وجهة نظره مثل الصحفى الذى يكتب مقالا معبرا عن رأيه، ولكننا نقصد مقدم البرامج الحوارية الذى يستضيف ضيفا أو أكثر لعرض قضية مجتمعية أو سياسية ومناقشتها بهدف عرض الرأى والرأى الآخر، فهذا النوع من الإعلاميين لا يجوز له أن يصرح برأيه الشخصى، لأنه من المفترض أن يكون محايدا تجاه القضية المعروضة للنقاش، وإلا أصبح مقدما لبرنامج ينقل فيه وجهة نظره مثل الصحفى.

ويعتبر عدم الحياد خروجا على المهنية التى تفرض على المحاور أن يكون غير منحاز لأى فريق ولا يعمل إلا على إيضاح الحقيقة، ومساعدة المستمع أو المشاهد على رؤية الأمر بشكل واضح، دون إعطاء أوصاف تعبر عن حالته الخاصة، أو عن وجهة نظره، وغير هذا لا يعتبر سوى إعلام منحاز، وبالتالى يفقد الإعلامى والقناة التى يعمل بها مصداقيتهما، ومن هنا جاءت فكرة إلغاء وزارة للإعلام فى الدولة الحديثة حتى لا تقوم الدولة بالوصاية على عقل المواطن.

وبالمثل بالنسبة للمُعلم، لابد أن يلتزم بـ«الحياد»، فيجب عليه أولا أن يبتعد عن منهج التلقين حتى لا يقتل حرية التفكير والإبداع لدى الطالب، فلا يصح للمعلم أن يفرض رأيه على طلابه، أو أن ينقل لهم معلومة خاصة به يفرض بها على الطالب ذاتيته فتُبعده عن الموضوعية؛ وثانيا، لا يجب أن يتحدث فى شأن سياسى، ولا يحق له أبدا أن يوجههم نحو اتجاه معين، حيث أن المعلم منوط به اتباع النهج الاستقرائى الذى يدفع الطالب على التفكير والبحث والإبداع والنقد.

ولا يصح أيضا للمعلم فى أى مرحلة من مراحل التعليم الخروج على دوره الأساسى، ويجب عليه توجيه الطالب نحو الموضوعية عن طريق تنمية القدرات النقدية لدى الطلاب بتدريبهم على البحث فى مصادر الموضوع المطروح للنقاش أو للدراسة، ومساعدة الطالب على تطوير مواهبه، هذا هو ما يقوله المتخصصون فى مجال التربية والتعليم ومن أهمهم جان جاك روسو فى كتابه الشهير الموسوم «إميل أو التربية» والذى يشرح فيه كيفية تربية الأطفال وتعليم التلاميذ.

وبهذا نستطيع أن نؤكد على أن «الحياد» صفة أصيلة ومشتركة وضرورة لا فرار منها لتحقيق المهنية الحقيقية فى ثلاث أهم وظائف لبناء مجتمع مستقر يسوده «العدل» و«التسامح» و«الموضوعية»، فـ«الحياد» المهنى ــ فى الإعلام والتعليم ــ يساعد على بناء العقل السليم الذى يتميز بالقدرة على النقد والإبداع، والذى يقبل بالرأى والرأى الآخر، كما أنه يعمل على تكوين الفكر المستنير الذى يبعد أبناءنا عن «التبعية» التى تسببت فى تكوين جحافل المتطرفين، والمُتبعين اتباع الأعمى لأصحاب الأفكار الهدامة والتى تعمل على تخريب وطننا العزيز.

ومن تجارب التاريخ نستفيد، ونؤكد ما نقول، لقد خرجت فرنسا، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، مُدمرة فى كثير من المجالات، وكان الجميع، فى حالة من اليأس، يتساءلون: كيف يمكن أن نُعيد بناء المجتمع والدولة؟ فسأل شارل ديجول عن أحوال الجامعة، هل تقوم بدورها التعليمى بشكل صحيح، وهل الأبحاث تسير فى طريقها السليم؟، وكانت الإجابة بـ«نعم»، وعندئذ قال ديجول: إذن لا خوف على فرنسا، ولا على الفرنسيين، سوف تنهض فرنسا، وسوف يتقدم الفرنسيون.

ونحن نطرح على أنفسنا ــ بعد أحداث جامعتى الأزهر والقاهرةـ ـ نفس التساؤل الذى وجهه ديجول لمستشاريه: «كيف حال الجامعة؟»، وفى الإجابة كَشْف عن أحوالنا!

أكرم السيسى أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية)– جامعة الأزهر
التعليقات