تؤرقنى دائما مسألة اتهام الفنانة «راقية إبراهيم»، بعد أن هاجرت إلى الولايات المتحدة، أنها كانت جاسوسة ضد وطنها مصر، كما شاركت فى مقتل العالمة الدكتورة «سميرة موسى» وهو أمر ليس لدى من يدعونه أى دلائل أو تأكيدات.
فمن المعروف أن «سميرة موسى» قد ماتت قبل رحيل «راقية إبراهيم» عن مصر بعام واحد على الأقل، أى إنها لا تزال فى إطار عملها كممثلة خاصة مع مخرجها المفضل «محمد كريم» الذى قدم لها فيلمها الآخر «جنون الحب» عام 1954، وقد عملت كثيرا مع كريم فى أفلام جيدة للغاية منها «زينب» وفيلم «رصاصة فى القلب» وفيلم اليوم «دنيا» إنتاج عام 1946.
قبل أن نتحدث عن الفيلم فإننى أرى أمامى ممثلة بالغة الجمال وشديدة الثقة بنفسها وتجيد أداء أدوارها وكانت نموذجا مشرفا لأى فنانة طوال فترة عملها التى تناهز العشرين عاما، حيث تشعر بأنها كائن شامخ تمتلك صوتا مميزا وقد تغنى فى بعض الأفلام دون أن تحترف الغناء.
وملأت الكوادر السينمائية فى أفلام عديدة أخرى منها «سلامة فى خير» و«ملاك الرحمة» إخراج يوسف وهبى، وفيلم «كدت أهدم بيتى» إخراج «أحمد كامل مرسى»، كما أنها كانت متزوجة لسنوات من مهندس الصوت المتميز «مصطفى والى» الذى عمل معها فى أغلب أفلامها ولا تعرف أى معلومات عن حياتهما الخاصة وكل ما نعرفه شخصيا هو أفلامها.
هناك أكثر من فيلم فى تاريخ السينما المصرية والعربية باسم «دنيا» قامت ببطولة الأفلام الأخرى «مها صبرى» و«حنان ترك».
أما «دنيا» فى فيلم اليوم فهى امرأة بلا جذور لا نعرف لها أسرة طوال الأحداث، يبدأ الفيلم بدنيا صامتة تماما وهى فى السجن تنتظر الإفراج عنها بعد خمس سنوات وتذهب كى تعيش مع المحامى الذى كان يدافع عنها «مصطفى» «سليمان نجيب»، والذى يتقرب إليها ويطلب منها الزواج إلا أنها تخبره برغبتها فى الانتقام من حبيبها «محمد» «أحمد سالم» الذى غدر بها هو وأمه «دولت أبيض» وكما نرى فإننا أمام ممثلين مصريين من جميع الأديان السماوية يتحابون من خلال شخصيات الفيلم.
وتلتقى دنيا بحبيبها وتتجدد العلاقة القديمة ويقرر الزواج منها ويدعوها إلى الإقامة مع أمه والتى يؤرقها السنوات الخمس التى اختفت فيها «دنيا» عن المدينة.
المسألة هى البحث عن امرأة شريفة من أجل أن تتزوج من الابن الوحيد لذا فإن «دنيا» التى دخلت السجن بتهمة قتل ابنها بعد أن تخلى عنها ابنها، تحمل عنها ماضيا مظلما لمثل هذه الأسرة، كما أنها قتلت ابن حبيبها بالعمد ونالت عقابها أى إننا هنا أمام نوع مختلف من الحب المستحيل فلا توجد أى مشكلة تقليدية مثل وجود العزول أو المنافس أو حبيبة أخرى فى حياة «محمد» ولكن الماضى هو الحائط الذى يفصل بين مشاعر «دنيا» والأسرة التى سوف تقترن بها.
الأم هنا امرأة مثقفة حازمة قوية كل ما تريده هو سعادة ابنها وألا يخرج عن طوعها وعندما تعرف أن «دنيا» تحب الابن تتفانى من أجل أن يتم الزواج، لكن المحامى «مصطفى» يجبر «دنيا» أن تخبر الأسرة الحقيقة وخاصة أنه يعرف أنها بريئة من جريمة القتل وأنها اضطرت إلى أن تفعل ذلك لظروفها الصعبة بعد أن أنجبت وليدها وتركته فى العراء وعليه فإن المستحيل هنا يتمثل فى اقتران «دنيا» بحبيبها لتبقى الأمور متعلقة حتى إن كنا سنفهم إنهما سوف يتزوجان.
الفيلم أقرب إلى المسرحيات الفرنسية، فنحن أقرب إلى عدد قليل من الشخصيات وأمام أقل قدر من الصراع والغريب أن المشهد الأول فى السجن يدور كله فى إطار صامت تماما ولا نبدأ فى سماع الصوت إلا بعد خروج «دنيا» من البوابة لتجد المحامى فى استقبالها وباعتبار أننا فى فترة ازدهار.
السينما الغنائية، فهناك مجموعة من الأغنيات المجهولة فى الفيلم ولكن الغريب حقا أننا سمعنا صوت السيدة «أم كلثوم» ترتل بعض آيات من القرآن الكريم كل هذه الأمور مقحمة فى الفيلم.
إذا عدنا إلى التمثيل فإن «أحمد سالم» الذى بدأ مسيرته كممثل محترف لهذا الفيلم بعد توقف.
ثمانى سنوات فإنه يبدو هنا وسيما، يمتلك صوتا مميزا لكنه كان دوما سنة أولى تمثيل.
أما «راقية إبراهيم» فهى المرأة المنقسمة داخل نفسها، ومن الواضح أنها تأثرت بتمثيل «جريتا جاربو» وخاصة فى فيلم «جنون الحب» بعد ثمانى سنوات.
أى إننا يمكننا اعتبار أن السينما المصرية أنجبت «جريتا جاربو» وأنكرنا أهميتها من خلال اتهامات غير موثقة.
وأنا مستعد لإعادة الكتابة عن أفلامها أكثر من مرة التى توجد على «اليوتيوب» للتعرف على قيمة تاريخية فنية يتم مسخها عن عمد.
أما الممثلة الثانية البالغة الأهمية فى هذا الفيلم هى «دولت أبيض» سيدة المسرح العظيمة وصاحبة التاريخ المميز والأدوار التى لا يمكن لممثلة أخرى أن تقدمها مثلما رأينا فى أفلام «المراهقات» و«الحقيقة العارية» و«وإمبراطورية ميم».
التى تفردت بدور المتحضرة التى تقود المواقف الصعبة بذكاء ودون افتعال، والغريب أن عند الاحتفال بعيد الأم فإنها لا تذكر كثيرا من بين أعظم أمهات السينما.
فيلم «دنيا» يؤكد أن «محمد كريم» كان دائما يحبس أبطاله فى غرف مغلقة لا يخرجون منها مثلما حدث مع كل أفلامه لمحمد عبدالوهاب باستثناء ذهابه إلى الريف فى فيلم «زينب» وأيضا حبس أبطاله فى فيلم «دليلة» و«قلب من ذهب» عام 1958.