صديق كريم وعزيز طلب، ونادرا ما يطلب، أن أشترى له من سوق حرة فى أحد المطارات نوعا من السجائر قل أن تجدها فى السوق العادية، فى مصر أو خارجها. لم يخطر على بال صديقى الكريم والعزيز أنه بهذا الطلب وضعنى أمام معضلة. صعب جدا أن أرفض له طلبا، وصعب جدا أن ألبى هذا الطلب. من أين له أن يعرف أن طلبا بسيطا مثل هذا الطلب يمكن أن تتعدد جوانبه الأخلاقية فتكون له صلات مع الحب والكره والشوق والعتاب، وأن تكون وراءه خلفية عريضة من تجارب «عاطفية» وذكريات شخصية؟
●●●
أقمت لفترة غير قصيرة فى ضاحية من ضواحى مدينة تونس، فى بيت يقع على سفح غابة مرتفعة عن سطح البحر أمتارا غير قليلة بشارع يكاد يكون منعزلا عن بقية شوارع الضاحية، لا يدخله إلا من كان يقصد دارا سكنيا ودارا أخرى يسكنها أحد كبار التجار وعائلته. حذرنى أصدقاء من أنه إذا وقع طارئ سيكون عسيرا الاستعانة بصديق من خارج الضاحية. كانت إجابتى عن هذا التحذير وتحذيرات أخرى هو أننى لم أقابل يوما مشكلة مع الهاتف التونسى أو أنبوبة البوتاجاز، فالحياة فى تونس سهلة وخالية من المتاعب.
●●●
وفى ليلة من ليالى الشتاء التونسى، الصاخب رعدا والمبهر برقا والغزير مطرا، وقع الطارئ الذى حذرونى من وقوعه. فجأة تفاقم الرشح الذى قضيت بسببه يومين فى الدار لا أغادر. ارتفعت درجة الحرارة وتضخمت اللوزتان حتى انسد الحلق تماما. لم أستطع التنفس، ولم أتمكن من النطق، وشعرت بما يمكن أن يشبه الموت يزحف ضاغطا على صدرى وأطرافى. وفى لحظات فارقة تمكنت من الاقتراب من الهاتف والضغط على أرقام أحد الأصدقاء. وغبت عن الوعى.
●●●
أفقت فى الصباح على فراش فى مستشفى «التوفيق»، وهى تبعد مسافة خمسة عشر كيلو مترا عن الضاحية التى أسكن فيها، وكان يجلس إلى جانب الفراش طبيب، عرفت فيما بعد أنه كان وراء إنقاذ حياتى عندما عاجلنى بحقنة من دواء الكورتيزون خففت التهاب الحلق وفتحت مسارا للتنفس والنطق. لم يضع الطبيب وقتا فى المجاملات أو مراعاة الحال، وانطلق يوجه وابلا من تهم الاستهتار بالصحة وضعف الإرادة والخضوع للإدمان. وفى النهاية وبلهجة قاطعة وجه إنذارا حاسما، فى شكل خيار مستحيل، أن أقلع فورا عن التدخين فأعيش أو أستمر فيه فأموت.
●●●
قضيت أسبوع النقاهة فى المنزل حتى زال تماما أثر الاحتقان واختفى طعم الدواء وعدت أمارس تفاصيل الحياة العادية باستثناء عادة التدخين. أخذت إنذار الطبيب مأخذ الجد مقررا عدم العودة إلى السيجارة. وبالفعل وضعت علبتها فى مكان قصى بعيدا عن متناول يدى. كانت ثقتى فى نفسى كاملة وقوية وكنت عازما على تجاهل العلبة وما فى داخلها. عشت أياما لا أقربها، غاضبا عليها، كارها شعورى بالذنب بسبب ما ارتكبته فى حق نفسى والكثيرين بسبب علاقتى الطويلة معها. رفضت أن نجتمع منفردين فى مكان مغلق وطلبت من زميلاتى وزملائى فى العمل عدم اصطحابها خلال زياراتهم لمكتبى.
●●●
بمرور الوقت حصلت على القوة اللازمة لبدء حياة جديدة بدونها. قدرت أن المواجهة ضرورية لإزالة أى شك فى نفسى حول هذه العلاقة وتداعياتها. أدركت أننى لم أعد أحمل لها ضغينة وخاصة بعد أن خلت عروقى من أى أثر لرحيق أو سموم كانت تبثها فيها. تحررت من نفوذها، أو هكذا فكرت. أستبعد أن أحدا سيصدق أن درجة حرارة جسمى ارتفعت وأصابعى ارتعشت وأنا أنقلها برفق وحنان من علبتها لأضعها أمامى على المائدة. كانت بيضاء ناصعة، بريئة وصادقة وهى تستلقى مستكينة وضعيفة. جرى بيننا حديث بدأته من جانبى بالعتاب. خيل لى أننى قلت لها إننى كنت قويا بدونها وقبل أن أعرفها فجعلتنى ضعيفا فى وجودها وغيابها. استحوذت على وقتى وجهدى وأعصابى، وتركتنى بقدرات أقل وبخاصة القدرة على التفكير والتركيز. تخيلت أنها ردت على عتابى. قالت، بهدوئها المعتاد وقدرتها الخارقة على جذب الاهتمام وفرض الإنصات، «لا تلومن إلا نفسك».
●●●
قالت وقالت.. أنت الذى كنت تسعى إلى حيث أكون داخل علبتى أو مخبأة فى درج أو راقدة فى جيب رجل غريب. أنت يا من حرصت على أن تستمتع بى عديد ساعات النهار وبعض ساعات الليل وأنا بين أناملك أحترق. يا صديقى دعنى أتباهى، فأنا لا أعرف أحدا، أو شيئا، عاش بين أناملك أطول مما عشت أنا بينها.
تعمدت، منذ كنت شابا يافعا ولافتا، أن أكون دائما وأنا داخل علبتى أو خارجها أقرب إلى قلبك من أى شىء آخر. كنت لا تشترى القميص إلا وتشترط أن يكون له جيب مخصص لى عند القلب. أنا لم أسع إلى هذا المكان ولكنى أحببته على الفور وبعدها لم أطق فراقه. أذكر كيف كنت تضعنى بأصابعك الحنونة بين شفتيك، أحيانا تتركنى بينهما ثوان، وأحيانا دقائق، وأحيانا ساعات. لم أتبرم يوما أو أشكو. كيف أتبرم أو أشكو، وهناك فى هذا الكون من يحسدنى على نعمة ونعيم. عشت معك واثقة من أن شخصا أو شيئا لم يحظ بما حظيت أنا به، قضيت عمرى كله تحتضنى بصدرك الدافئ وتقبلنى بفم متعطش حبا.. لسيجارة ودخان.
●●●
استمعت واستمعت.. ولم تصدر عنى، على امتداد ساعات الحديث الطويل عبارة تنم عن كره أو رغبة فى الانتقام والثأر، رغم أن بوادر القطيعة كانت واضحة. كنت أعرف أنها كادت تتسبب فى قتلى، وأنها قتلت أصدقاء عديدين، ومازالت تقتل. خانت عهود مودتى.
●●●
دخلت السوق الحرة وتوقفت أمام «كراتين» السجائر المرصوصة بأناقة فى فترينة، لا أجمل منها فى السوق إلا فاترينة العطور. طال وقوفى وكان ترددى ظاهرا. مشيت مرارا نحو أرفف وفاترينات أخرى لأعود دائما وأقف أمام فاترينة السجائر. رأيت أنواعا لم أجربها وأنواعا أخرى لازمتنى سنوات وأظن أن دمعة هربت من عينى وأنا أنظر إلى كارتونة حمراء تحمل اسم السيجارة الأولى التى دخنتها ولم أتجاوز السادسة عشرة من عمرى. انتبهت على صوت عاملة بيع مغربية اللهجة وودودة الطلة تهمس فى أذنى: سيدى، لا تشترها من فضلك، إنها تقتل.
●●●
حملتها بين يدى حتى الطائرة واحتلت المقعد الملاصق لمقعدى وخرجنا معا من المطار ومن هناك إلى منزل الصديق العزيز الكريم الذى استقبلها بحفاوة بالغة.