كل ما أخشاه هو أن يؤخذ حديثى اليوم فى غير سياقه. تمهلت حتى ينتهى شهر رمضان الكريم لأعلق على ظاهرة أرى أن ظاهرها الرحمة بينما باطنها العذاب. أعنى ظاهرة سيل الإعلانات التى أصبحت فنا مستقلا بذاته لمخاطبة مشاعر الناس وحثهم على التبرع للمؤسسات الطبية فى مصر. تلك بلا شك الصياغة التى كنت أتمنى أن تعبر عنها الإعلانات على اختلاف أنواعها لكن الواقع يأتى بفكر مغاير فهى الكثير من الترهيب والوعيد والتهديد والإنذار بعواقب وخيمة ومصائر قاتمة ملفوفا بورقة ملونة من السيلوفان الشفاف تأخذ العين للحظة لكنها أبدا لا تخفى ما تحويها من قتامة.
تميزت إعلانات مؤسسات علاج السرطان عن غيرها هذا العام ليس فقط بالحيز الهائل من ساعات إرسال كل القنوات الفضائية بل بالانفاق الضخم الذى بدا حجمه فى تقنيات التصوير والاخراج وعدد المشاهير المشاركين فيه. اكتسحت إعلانات مؤسسات علاج السرطان السباق وتسيدت حتى أن أحد المسلسلات المهمة كان السرطان نجمه الأوحد من أوله إلى آخر حلقة إلى جانب نجوم تونس الخضراء. وتميزت إعلانات مستشفى ٥٠٠/٥٠٠ و٣٧٥٣٧ بالإبهار خاصة أنها استعانت بجيش من الاطفال من مرضى السرطان أسمتهم أبطال ٥٧ إلى جانب الخروج من مأزق كل تداعيات المرض المؤلمة إلى رحابة الصور البديعة الملونة لجنة الله على الأرض الأشبه بجو الأساطير حتى أن طفلة فى السابعة من عمرها أثناء الكشف عليها فى عيادة قلب الأطفال بمعهد القلب القومى سألتنى ببراءة إذا ما كان لها أن تعالج فى مستشفى ٥٧ لتلعب مع أقرانها من الأطفال سعداء الحظ؟
الإعلان الذى أود أن أتوقف عنده من إعلانات السرطان هو الإعلان الذى يشير بحزم إلى أن واحدة من ثمانية هن بلا شك أقرب الناس إليك حتميا سيصيبها السرطان: يبدأ بأمك وينتهى بابنتك مرورا بزوجتك وبخالتك وعمتك وحماتك وأختك وجدتك والشغالة!
فى الإعلان معلومة علمية أشك تماما فى صدقها: واحدة من كل ثمانية سيدات فى مصر حتما تصاب بسرطان الثدى. ما هو المرجع العلمى الرصين الذى استند إليه صاحب إعلان مؤسسة بهية ليرفع بأصبعه مهددا كل رجال مصر بأن السرطان سيداهم عائلته ليغتال سيدة من كل ثمانية يمتون إليه بصلة قرابة قوية لدرجة الأم والزوجة والبنت...؟ وأن عليهم سداد الجزية المطلوبة للثمانية معا دون تمييز بينهم!
فى بلادنا لا نتعدى النسب العالية: ٣٤ فى المائة ألف. ناهيك عن أن سرطانات الثدى أنواع عديدة غير ما يتصور العامة ونسب الشفاء فى تزايد مستمر حتى أن معظمها الآن مع الاكتشاف المبكر يصل إلى مائة بالمائة. أيضا وسائل التشخيص التى تبدأ من صور الاشعة على الثدى «الماموجرام» وحتى اكتشاف احتمالات حدوثه بين الدراسات الوراثية للجينات.
ألا يعطى هذا اصحاب الإعلانات أفكارا أفضل فيبشروا بدلا من أن ينفروا؟
أؤمن بلا حدود بدور المجتمع المدنى فى دعم الدولة ولا أشغل بالى بالجدل الدائر حول موارد الدولة وانفاقها فلذلك الشأن فرسانه وأنا بالفعل أؤيدهم لكن جهدى الآن أبذله فى دائرة عملى وكيف يمكننى أن أدعم بقوة حق الانسان المصرى المريض فى العلاج من خلال مؤسسات الدولة.
يجب أن تستخدم وسائل مشروعة خاضعة تماما لمقاييس الشفافية فى حث المجتمع على أداء واجب أصبح الان فرض عين بعد أن كان إلى أيام قريبة فرض كفاية.
هذا المجتمع ذاته يجب أن يكون رقيبا على تلك الوسائل وأهمها الإعلانات: ما تتضمنه من معلومات وما تبنته من أفكار أو تروج له من كلمات بلا معنى.
هل يدلنى أحد من فضلكم على معنى تلك اللازمة التى ينتهى بها الإعلان: معلش يا بهية.. حقك عليه؟!