لم تكن الأزمة الأوكرانية الراهنة سوى أحد فصول الصراع المستمر بين روسيا من جهة وبين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين من جهة أخرى، وهو الصراع الذى ورثته روسيا باعتبارها امتدادا للاتحاد السوفييتى السابق، الذى خاض حربا باردة طويلة فى مواجهة الغرب، وامتدت هذه الحرب الباردة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفييتى وتداعى حلف وارسو والكتلة الشرقية.
وبعد تلك الأحداث استمر الغرب فى وضع روسيا فى مكانة الخصم اللدود بما تملكه من قوية نووية وإمكانات عسكرية كبرى، وواصل مناوءتها وهو يشاهد الجهود الحثيثة التى قادها الرئيس الروسى فلاديمير بوتين منذ توليه لإعادة بناء الاقتصاد الروسى واستعادة روسيا لقوتها، ولم يكتفِ الغرب بالمشاهدة، بل أخذ فى التحرك لضم العديد من دول الكتلة الشرقية السابقة الواحدة تلو الأخرى إلى اتفاقية حلف شمال الأطلنطى، برغم تعهد الولايات المتحدة لروسيا بأن حلف شمال الأطلنطى لن يمتد بوصة واحدة نحو الشرق، وفق ما وعد به وزير خارجية الولايات المتحدة جيمس بيكر الرئيس السوفييتى ميخائيل جورباتشوف خلال زيارة لموسكو فى فبراير عام 1990، كانت تستهدف مناقشة إعادة توحيد ألمانيا بعد سقوط جدار برلين.
وفيما بعد وجه الرئيس الروسى الأسبق بوريس يلتسين رسالة إلى نظيره الأمريكى بيل كلينتون فى سبتمبر 1993 كتب فيها: إننا نفهم أن أى اندماج محتمل لدول أوروبا الشرقية فى حلف شمال الأطلسى لن يؤدى تلقائيا إلى تحول هذا الحلف بطريقة ما ضد روسيا، لكن من الأهمية بمكان أن تؤخذ فى الاعتبار الطريقة التى قد يتفاعل من خلالها الرأى العام لدينا مع هذه الخطوة. وهكذا كتب يلتسين وكأنه يلتمس ويترجى عدم توسع حلف الأطلنطى وضم دول أوروبا الشرقية السابقة للحلف.
• • •
هكذا شهد عقد التسعينيات المرير على روسيا تحقق تلك المخاوف على إثر تفكك وانهيار الاتحاد السوفييتى وتداعى القوة الروسية فى عهد ميخائيل جورباتشوف وبوريس يلتسين، بحيث يعبر الكثير من الروس بقولهم إن عقد التسعينيات كان عقدا من الإذلال، حين قامت خلاله الولايات المتحدة بفرض رؤيتها وهيمنتها على العالم وعلى روسيا، وتجلى ذلك للروس أكثر ما يكون فى الأزمة اليوغوسلافية، فى وقت فيه روسيا عاجزة عن القيام بشىء تجاه صربيا حليفتها التاريخية.
وعليه وفى عام 1997 تمت دعوة ثلاث دول من حلف وارسو السابق وهى المجر والتشيك وبولندا للانضمام إلى حلف شمال الأطلنطى فانضمت عام 1999، ثم انضمت سبع من دول أوروبا الشرقية إلى الحلف عام 2004 وهى بلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا، وانضمت ألبانيا وكرواتيا عام 2009، والجبل الأسود عام 2017 ومقدونيا الشمالية عام 2020، وهكذا أضاف حلف شمال الأطلنطى لعضويته 14 دولة خلال الفترة من 1999 إلى 2020، ليصل عدد دول الحلف اليوم إلى 30 دولة، وتشارك 21 دولة أخرى مع الحلف فى برنامج الشراكة، ومشاركة 15 دولة أخرى فى برامج الحوار المؤسسى.
كانت العلاقات بين حلف شمال الأطلنطى وأوكرانيا قد بدأت بشكل رسمى فى منتصف التسعينيات بعد أن أصبحت أوكرانيا أول دولة من رابطة الدول المستقلة تدخل منظمة الشراكة التابعة لحلف شمال الأطلنطى عام 1994. وفى عام 1997 افتتح أول مركز رسمى للمعلومات والتوثيق للحلف فى العاصمة الأوكرانية كييف، وفى نفس العام، أنشئت اللجنة المشتركة بين حلف شمال الأطلنطى وأوكرانيا.
بعد عدة سنوات كانت روسيا بوتين ترقب تلك التطورات بصبر مرير، وتشهد على مضض التمدد التدريجى للحلف وضم دول أوروبا إليه واحدة تلو الأخرى، إلى الحد الذى جعل الرئيس بوتين يعلن صراحة فى إبريل عام 2008 عندما حضر قمة حلف شمال الأطلسى فى العاصمة الرومانية بوخارست: «لا يمكن لأى زعيم روسى أن يقف مكتوف الأيدى فى مواجهة الخطوات التى تتخذ فى اتجاه قبول عضوية أوكرانيا فى حلف شمال الأطلنطى.. إن ذلك سيشكل عملا عدائيا تجاه روسيا».
وبعد الانتخابات الرئاسية لعام 2010 التى انتخب فيها فيكتور يانوكوفيتش رئيسا، والذى فضل اتباع سياسة الحياد، علقت أوكرانيا خطط الانضمام لحلف الأطلنطى، لكن الغرب من جهته لم يكن راضيا عن تلك السياسة التى لا تتفق وخططه فى الصراع مع روسيا، فتم ترتيب اندلاع اضطرابات عارمة فى البلاد أطاحت بالرئيس يانوكوفيتش فى فبراير 2014، لتأتى حكومة ياتسينيوك وأصبح الانضمام للحلف بعد الانتخابات البرلمانية فى أكتوبر 2014 أولوية سياسية للحكومة الأوكرانية التى باتت تضمر وتظهر العداء لروسيا جهارا نهارا، وتفاقم الوضع بعد قيام تلك الحكومة بتأجيج الوضع فى شرق أوكرانيا واضطهاد السكان المتحدثين باللغة الروسية هناك سنة بعد الأخرى.
وأخيرا وقبل اندلاع الحرب فى أوكرانيا بعدة أسابيع صرح أمين عام حلف شمال الأطلنطى يانس شتولتنبرج بقوله: «يواصل الناتو عملية التوسع، وقد انضمت إليه جمهوريتا الجبل الأسود ومقدونيا الشمالية رغم احتجاجات روسيا.. ولن يقدم الحلف أى تنازلات لروسيا بشأن عدم ضم أوكرانيا وجورجيا مستقبلا، مبديا قناعته بأنه ليس لدى موسكو أى حق فى اتخاذ قرارات بشأن انضمام دول ذات سيادة مثل أوكرانيا للحلف».
أما الموقف الرسمى للحلف فقد واصل التأكيد على أن أوكرانيا دولة مستقلة ومستقرة وذات سيادة، وهى ملتزمة بشدة بمبادئ الديمقراطية وسيادة القانون، وتعد مفتاحا للأمن الأوروبى الأطلسى، مؤكدا على تكثيف التعاون مع أوكرانيا بعد قيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم، ودعم الانفصاليين فى جمهوريتى دونيتسك ولوجانسك.
وتصاعد دعم الحلف لأوكرانيا فى الفترة السابقة على اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية بإمدادها بكميات كبيرة من السلاح والعتاد، وإرسال المستشارين والخبراء العسكريين لتدريب الجيش الأوكرانى، وعند تلك المرحلة لم يكن هناك مناص من تحرك روسيا لدرء الخطر عن أمنها القومى، فقد بات حلف شمال الأطلنطى فعليا ومباشرة على حدود روسيا، وبات الأمن القومى الروسى فعليا فى دائرة الخطر.
•••
اليوم وبعد مرور أربعة أشهر على اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، يبدو أن أرصدة المكسب تحققت لصالح روسيا إلى حد كبير، إذ تمكنت القوات الروسية من السيطرة على قرابة 20% من مساحة أوكرانيا، وبات بحر آزوف بحرا داخليا روسيا، وتعزز الربط بين روسيا الأم وشبه جزيرة القرم، كما توشك روسيا على تحقيق استقلال جمهوريتى دونيتسك ولوجانسك اللتين أعلنتا رغبتهما فى الانضمام إلى جمهورية روسيا الاتحادية.
واقتصاديا لم تسفر ثمانى مجموعات من العقوبات فرضتها الولايات المتحدة والدول الغربية عن تأثيرات سلبية تذكر على الاقتصاد الروسى، وبرغم تلك العقوبات فقد حقق الروبل أخيرا أفضل مستويات سعر الصرف أمام الدولار والعملات الأوروبية، وفى ذات الوقت نجحت روسيا فى إحداث تغيير تاريخى فى نظام مدفوعات مقابل الغاز الروسى الذى تورده إلى الدول الأوروبية بفرض دفع ثمنه بالروبل الروسى، حيث تعد روسيا أبرز موردى الغاز إلى أوروبا بنحو 160 مليار متر مكعب من الغاز سنويا، وتمثل قرابة 40 % من الاحتياجات السنوية الأوروبية من الغاز، ومع ارتفاع أسعار النفط العالمية تزايدت الإيرادات الروسية من صادرات النفط إلى أكثر من 180 مليار دولار فى العام الجارى 2022، بزيادة 45% و181% عن عامى 2021 و2020.
ومن جهة أخرى، وحتى تاريخه يبدو أن الحسابات الغربية بشأن المسألة الأوكرانية جانبها الصواب، فقد بلغ التضخم فى منطقة اليورو مستوى قياسيا فى مارس 2022 بواقع 7.5% خلال سنة متأثرا بالأزمة الأوكرانية التى رفعت أسعار الطاقة والمواد الغذائية، كما يأتى ارتفاع مستوى التضخم فى منطقة اليورو بدافع من ارتفاع أسعار النفط والغاز والكهرباء، حيث ارتفعت أسعار الطاقة بنسبة 44.7% خلال سنة، ويشمل هذا الارتفاع فى الأسعار ركائز المؤشر كلها، لا سيما المواد الغذائية التى قفزت بنسبة 5 %، أما السلع الصناعية فقد ارتفعت أسعارها بنسبة 3.4% فى مارس 2022.
أما الولايات المتحدة فقد سجل معدل التضخم فيها أعلى مستوى له منذ 40 عاما، بعد أن ارتفعت أسعار الطاقة بنسبة 32% فى مارس 2022، وارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية بنسبة 8.5% وهى أكبر زيادة سنوية منذ ديسمبر 1981، ودفع معدل التضخم المرتفع فى الولايات المتحدة مجلس الاحتياطى الفيدرالى الشهر الماضى إلى رفع سعر الفائدة الرئيسى لأول مرة منذ ثلاث سنوات.
ويضاف إلى كل ما سبق، أن التحول من النظام أحادى القوى القطبية فى العلاقات الدولية قد بدأ فعلا وأخذ مساره، وبات يظهر إلى الوجود عالم متعدد الأقطاب ممثلا فى الولايات المتحدة وروسيا والصين، كما يبدو أن نظام النقد الدولى والمدفوعات الدولية قد اتخذت لها مسارا جديدا.. ولا جدال أن العالم ما بعد اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية لن يكون أبدا كما كان قبلها.