كل المؤشرات قبل الأمس كانت تقول إن ميدان التحرير سيشهد بالفعل جمعة للم الشمل، لكن ما رأيته حتى كتابة هذه السطور، كان جهدا فى طريق لم الشمل، يقابله جهد أكبر فى اتجاه تعميق الشق، واستعراض القوة فى الحشد.
بالأمس فقط تستطيع أن تتلمس قيمة التيارات الإسلامية المسيسة، التى مارست السياسة بكل أشكالها، وانخرطت فى حوارات متواصلة مع قوى المجتمع الأخرى، وتحرك خطابها فى اتجاه أقرب للواقع السياسى والاجتماعى المصرى.
الخبرات السياسية التى اكتسبتها التيارات الإسلامية وشبه الإسلامية أو المحافظة وأعنى هنا الأحزاب الخارجة من رحم جماعة الإخوان المسلمين جميعها إلى جانب حزب الوسط وبعض العناصر داخل الجماعات الإسلامية، تبين لك الفارق الشاسع الذى شاهدته فى الميدان بين «إسلامى» يرفع مطالب توافقية، ولا ينفى التنوع واحترامه على الأقل فى تصريحاته، وبين إسلامى يرفع صورة بن لادن ويخاطب الولايات المتحدة بقوله: «يا أوباما كلنا هنا أسامة».
قطعا لم تقم الثورة من أجل أسامة بن لادن أو غيره، ولم تقم ليرفع من يقولون إنهم الثوار «أعلام السعودية»، لم يخرج الشعب المصرى بكل فئاته وطوائفه وتحمل قنابل الغاز والسحل والضرب والموت، لأنه كان يتوق للعيش فى نموذج حكم كذلك الموجود فى المملكة العربية السعودية، مع احترامى لاختيار السعوديين أو رضاهم أو حتى معادلاتهم الخاصة التى ارتضوها فيما بينهم، لكن داخل النموذج السعودى ذاته هناك حركة ظاهرة لتطويره وتقليص نفوذه الدينى المباشر.
أنت الآن أمام تحد حقيقى فهذه التيارات الإسلامية «غير المسيسة» لم يكن لها حضور حقيقى قبل الثورة، بعضها مارس السياسة بالعنف وتراجع عن ذلك فيما بعد، وبعضها أغلق عليه مسجده وحلقة علمه وابتعد عن السياسة مفضلا التوغل فى المجتمع بأفكار وهابية المصدر.
ليس لدى اعتراض فى أن يتبنى أى طرف ما يشاء من أفكار، أو يختار طريقة تعبده كما يشاء، لكن المشكلة فى التعامل مع السياسة باعتبارها «غزوة» والخروج بالثورة المصرية التى قامت فى الأساس تنشد الديمقراطية والعدالة، فى اتجاه خطاب لا يعترف بالديمقراطية ولا يؤمن بها، ولا يعترف بالتنوع ويحترمه، ولا يعتقد فى أن الانتقاص من حقوق الشركاء المغايرين دينيا فيه أى تجنٍ على مبدأ العدالة الذى يظل مقوما أساسيا لمنطق وفكرة ورسالة الإسلام بمعناها الحقيقى.
مازالت التيارات الإسلامية الجديدة، تحتاج إلى دراسات وتدريب سياسى واحتكاك متواصل مع الأطراف الأخرى، لذلك لا يجب النفور منها أو الابتعاد عنها لأن فى ذلك خطر حقيقى سيدفعها لمزيد من الانغلاق حول رؤية أحادية، لكن الانفتاح على هذه التيارات المستجدة وجرها للحوار والنقاش وجهد التوافق سيكون أفضل وسيلة لاحتواء هذه التيارات وتحويلها إلى إضافة للمجتمع وليس خصما منه.
وهو حوار واجب خاصة أن الفكرة الإسلامية ذاتها فى صورتها السياسية تجاوزت صورة «أمير المؤمنين» ودعوات الخلافة والحاكمية بالتوكيل الإلهى المطلق وولى الأمر الواجب طاعته، وباتت تنشد المؤسسات وآليات المحاسبة والرقابة واحترام الحقوق والحريات أو هكذا أعتقد..!