منذ مطلع الألفية الجديدة، خاصة منذ 2010، اكتملت ملامح الثورة التكنولوجية الرقمية أو (الثورة الصناعية الرابعة) أو «الثورة الرابعة» اختصارا، وإذا بهذه الثورة تقوم على مثلث: قاعدته الذكاء الاصطناعى بصورته المستحدثة، وضلعاه يمثلهما من جانب أول: الآلات المفكرة المستشعِرة صغيرة الحجم، ومن جانبٍ ثانٍ: (الروبوت) أو «الكائن الآلى».
هذه الثورة التكنولوجية الرقمية وجدت حاضنتها الطبيعية فى كل من مجموعة الدول الصناعية المتقدمة (الدول الصناعية السبع): أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا واليابان، بالإضافة إلى حفنة من الدول «المصنعة الجديدة» أو الدول «شبه الصناعية» خاصة المجموعة المسماة بـ«البريكس»: روسيا، الصين، الهند، البرازيل، وجنوب إفريقيا، ويسميها البعض «الدول النامية الديناميكية الكبيرة» أو «الدول الناهضة» فيما يقال الآن.
وإن أبرز ما يسِم العالميْن: «الصناعى» و«شبه الصناعى»، هو الانسجام والتناسق الاقتصادى المحلى، فى كل دولة منها وكذا على مستواها الكلى كمجموعة إلى حد ما، حيث الثورة الصناعية أو «شبه الصناعية» سبقت الثورة الرقمية، ثم انضمت إليها وانسجمت معها دون احتكاك خشن.
خارج المجموعتين الصناعية وشبه الصناعية، يقبع مجموع الدول النامية، سواء منها الغنية نسبيا والمنتجة للنفط والغاز الطبيعى (البلدان أعضاء مجلس التعاون الخليجى عموما)، أو ذات الدخل المتوسط (بشرائحه العالية والمتوسطة والمنخفضة). وبعد ذلك: البلدان الأقل نموا، بل و«أقل الأقل نموا»، والبعض منها يعانى من الحروب الأهلية والتمزق الداخلى أو من «قسوة» الطبيعة، بل تعانى إحداها من الاستعمار القديم فى صورته الاستيطانية المقيتة (الاستعمار الاستيطانى الصهيونى لفلسطين).
فى جميع البلدان المنتمية إلى هذه (التشكيلة) غير المتجانسة للعالم النامى، نلاحظ أن الثورة التكنولوجية الرقمية، المتنامية أو الناضجة فى العالم الصناعى، والبازغة فى الدول شبه الصناعية؛ تظل «غريبة الديار» مثل «المنبت» الذى (لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى).
فماذا عن الدول العربية؟
تتكثف السحب الداكنة فى السماوات العربية هذه الأيام، حتى لتكاد تحجب الرؤية وتخنق الأنفاس وتسد منافذ البصر على المدى. لكن هذا فى رأينا ينبغى ألا يحول بيننا وبين محاولة الاستبصار لآفاق المستقبل، الذى قد يرونه بعيدا ونراه قريبا. فماذا عن الدول العربية، فى مضمار الثورة التكنولوجية الرابعة التى لمسنا طرفا أو أطرافا منها؟
مبدئيا، ومن وجهة النظر الاقتصادية ــ الاجتماعية، بالتطبيق على الدول العربية وما يناظرها من الدول النامية، فإن مجرد إدخال التكنولوجيات الرقمية فى هذه المجتمعات التى لم تشهد عبر تاريخها الحديث ثورة صناعية أو شبه صناعية على غرار ما تم فى الدول الصناعية قديما وحديثا، يكون بمثابة «وضع للعصى فى الدواليب» كما يقال. فلسوف يؤدى ذلك، على الأرجح، إلى إرباك المسار الطبيعى للتطور الاقتصادى، وخلق ازدواجيات اقتصادية تفوق بكثير ما يطلق عليه «المرض الهولندى» القائم تقليديا على تجاور القطاعين التقليدى والحديث فى الاقتصادات المتخلفة والآخذة فى النمو، دون تفاعل وتكامل عضوى بينهما.
ونلاحظ فى هذا المقام، أن الوطن العربى لا يشكل كتلة اقتصادية متجانسة، ومن ثم تقتضى دراسة أحواله الاقتصادية من وجهة نظر مستقبل «الثورة الصناعية الرابعة، تقسيمه لأغراض الدراسة إلى مجموعات ثلاثة. من ناحية أولى، هناك مجموعة من بلدان عربية كبيرة نسبيا، سواء من حيث المساحة أو حجم السكان وقاعدة الموارد؛ بعضها منتجة للنفط والغاز تمثلها السعودية والجزائر، وبعضها غير منتجة بصفة رئيسية للنفط أو ذات موارد شحيحة نسبيا مثل العراق ومصر والسودان والمغرب. هذه البلدان «الكبيرة» جميعا تنوء بحمل الاقتصاد التقليدى، الطاقوى وغير الطاقوى، وبكم سكانى كثيف، وباقتصاد هامشى ضخم نسبيا خارج «التيار الرئيسى» لمصادر توليد الناتج المحلى الإجمالى. وفى هذه الحالة، نجد أن إدخال التكنولوجيا الرقمية إلى هذه المجموعة من البلدان العربية، على النحو القائم فى العالم الصناعى وشبه الصناعى، كما أشرنا، إن تم بصورة عفوية أو غير مخططة، فإنه يكون غير مأمون العواقب على كل حال.
***
إن شطرا عظيما من البوادى والأرياف فى هذه البلدان يظل بعيدا عن المجرى العام للتكنولوجيا وفق ثورتها الرابعة المعاصرة. فإذا تم تركيز الجهد الاقتصادى من قبل الحكومات والنخب على بناء وتفعيل استراتيجيات لإدخال التكنولوجيات الرقمية فقط، فسوف يكون ذلك عبثا من العبث، داعيا إلى الغرق فى مستنقع عميق.
إذ كيف يتم إدخال أدوات الثورة المعرفية الرقمية بصورة عامة فى بلدان لم تشهد ثورة صناعية أو شبه صناعية؟
إن الأمر ليقتضى فى هذه الحالة نوعا من الإدخال «الانتقائى» لأدوات الثورة الرقمية بهدف تسريع وتيرة التطور الصناعى بالذات أى القيام بعملية التصنيع. بعبارة أخرى: ينبغى أن تستهدف التكنولوجيا الرقمية هنا المساعدة فى بناء ما قبلها، أى الصناعة، ولو غير الرقمية تماما، وتطوير القاعدة الإنتاجية على وجه العموم.
غير أن هناك، فيما نرى، مجموعة ثانية من البلدان العربية لا تتمتع بمقومات كفيلة بإمكان تحقيق الثورة الصناعية، ولو أن لها سابقة عمل وتطورا فى قطاعات أخرى (قطاعات خدمية كالمال والتجارة والسياحة والتعليم، أو قطاعات سلعية ممثلة فى الصناعة الخفيفة)؛ ولكنها يمكن لها أن تعمل بأمان أكثر من أجل تبنى شطر من آليات الثورة الرقمية دون أن تخشى شيئا، أو دون أن تخشى الكثير.
تلك هى حالة لبنان والأردن، بل و«الدولة الفلسطينية» وعاصمتها القدس الشرقية، فى الشرق العربى، وحالة تونس فى المغرب، وحالة البحرين وعمان فى الخليج ــ مع استبعاد حالة دولة قطر كبلد صغير غنى له ظروفه الخاصة، وكذا مع استبعاد «دولة الإمارات العربية المتحدة»، خاصة إمارة دبى التى حققت فيما يبدو ولوجا آمنا بالفعل إلى بشائر العصر الرقمى العالمى، كمشروع (مدينة عالمية) (غير عربية بمعنى ما).
خمسة أو ستة بلدان عربية إذن مؤهلة ــ بحكم (مكر التاريخ) ــ لبدء عملية الإدخال الآمن للثورة الرقمية، دون مضاعفات متوقعة كثيرة، إن هى أحسنت وضع الأولويات لها، وبرمجت التطور الرقمى على مدى الزمن بصورة واقعية ودقيقة
مجموعة ثالثة من البلدان العربية الأقل نموا (مثل موريتانيا) والأكثر فقرا، أو ذات الظروف الخاصة وشحيحة الموارد (مثل جيبوتى)، أو التى تعانى من التمزق الداخلى، مثل الصومال أو اليمن ــ بصفة انتقالية حاليا ــ وهذه كلها ينبغى أن يشملها العون العربى والخارجى لانتشالها من الظروف المعيقة.
تلك إذن ثلاث مجموعات للبلدان العربية من وجهة نظر التطور التكنولوجى الدولى المتسارع: فى الطرف الأول، مجموعة من الدول الكبيرة؛ وبفرض حدوث تحول سياسى واجتماعى جذرى يسمح بتولد إرادة تنموية حقيقية، فإنها لا بد أن تأخذ حذرها وتبنى «استراتيجيات» انتقائية للتكنولوجيا الرقمية، تشمل السعودية ومصر والسودان والجزائر والمغرب (وسوريا إلى حد ما بعد انتهاء الفترة الراهنة).
ومجموعة فى المنتصف، وهى ما تسمى بالبلدان الأقل نموا، وذات الظروف الخاصة.
وفى الطرف المقابل للمجموعة الأولى، ثمة مجموعة من البلدان الصغيرة نسبيا، بالمعنى الإيجابى، يمكن أن تسمح ظروفها بتهيئة المجال الاقتصادى للتطوير التكنولوجى الرقمى بآفاقه العالمية، وذلك بفرض حدوث تحول سياسى واجتماعى جذرى يسمح بتولد إرادة تنموية حقيقية، كما أشرنا بشأن المجموعة الأولى.
هذه المجموعات الثلاثة، نقترح أن يكون لها إطار للعمل المشترك، انطلاقا من توفر شرط ضرورى خاص بالتحول السياسى والاجتماعى الجذرى، بفعل تشابه الظروف بدرجة معينة داخل كل مجموعة، وبين المجموعات الثلاثة ككل، بحكم الانتماء المشترك للدائرة الحضارية العربية. وحبذا لو تم ذلك تحت مظلة العمل المتدرج من أجل بناء جماعة اقتصادية عربية، ساعية إلى اللحاق بالعالم الصناعى وشبه الصناعى فى عصرنا. وتلك ربما من أهم المهام للنخبة الثقافية العربية.
فهلا نفكر فى المستقبل المؤجل نسبيا، لا يحجبه عنا ما نراه فى اللحظة الراهنة من ضباب كثيف؟