لما بلغ المعتصم أسوار عمورية، وكان ذلك فى السادس من رمضان سنة 223هـ، بعث حاكم عمورية إلى ملك الروم يخبره ببدء الحصار على مدينته وبأنه عازم على الخروج من الأبواب كلها بمن معه بغتة ليفاجئ المسلمين بقواته قبل أن يستعدوا للقتال الاستعداد الكامل. وقال للملك فى كتابه: إنه لابد أن يفعل ذلك مهما كانت النتائج لأنه أفضل من انتظار إكمال المسلمين استعداداتهم وكمال راحتهم بحيث يصبحون أقوى على القتال.
وأرسل حاكم عمورية هذا الكتاب مع غلامين له، فلما مروا على جيش المسلمين اشتبه فيهم بعض الجنود فسألوهما عن شأنهما فزعما أنهما من أصحاب أمير من أمراء جيش المسلمين، ولم يصدقهما الجنود فى ذلك فأسروهما، وحمل الغلامان إلى المعتصم فأقرا عنده بأنهما من غلمان حاكم عمورية (كان اسمه مناطس) وأنه أرسلهما إلى ملك الروم بالرسالة المذكورة،
وقررا للمعتصم أنهما يعرفان الإسلام ويريدان الدخول فيه، فأسلما من فورهما. فأمر لهما المعتصم بهدية، وأن يطاف بهما حول أسوار عمورية، ويعلن إسلامهما، ثم يوقف بهما تحت الحصن الذى يتحصن فيه حاكم عمورية (مناطس) وتنثر عليهما الدراهم، وتقدم إليهما الهدايا، ويبرزا الكتاب الذى حملاه منه إلى الملك، فجعلت الروم تسبهما وتلعنهما لأنهما فضحا قائد المدينة وحاكمها.
وأمر المعتصم بتجديد الحرس المقابل لأبواب المدينة والاحتياط التام والتحفظ من خروج الروم بغتة، ومر على قواته فأمر فى مواضع بزيادة المجانيق والعتاد، من مختلف آلات الحرب، فأحكم الحصار حول المدينة، وضيق على الروم، وكان رجل من المسلمين قد أسره الروم، وأكرهوه على ترك الإسلام والدخول فى دينهم فأظهر ذلك وهو يكتم إيمانه، وزوجوه امرأة منهم ليضمنوا بقاءه،
فلما رأى جيش المعتصم وهو على رأسه، خرج متخفيا من عمورية وأتى خيمة المعتصم وطلب لقاءه، فقصَّ عليه خبره، وجدد أمامه العهد بالإسلام، وأخبره عن موضع وحيد فى سور المدينة كان قد هدمته السيول وبُنِىَ بناء ضعيفا بلا أساس، وكان الملك قد أمر مرات ببنائه فلم يمتثل حاكم عمورية، فأمر المعتصم بمعاينة الموضع الذى ذكره الرجل المسلم،
فوجد كما قال، إلا أن بينه وبين المدينة خندقا عميقا يصعب اجتيازه، فأمر المعتصم كل رجل من الجيش أن يذبح رأسا من الغنم فيأكل منها وأن يأتى بجلدها فيملأه ترابا ويطرحه فى الخندق، فسوى الخندق بالأرض، وأمر المعتصم بأن يُهالَ تراب كثير فوق الجلود، وهكذا أصبح الخندق طريقا ممهدا يمكن السير عليه(!)
ونصب المعتصم المجانيق على كل ناحية من السور، ورماه بها، حتى انهدم السور فى الموضع المعيب منه، ولكنه لم يكن كافيا ليدخل منه الرجال والخيل. فقَّوى المسلمون حصار المدينة وشددوا على أهلها، وفزع الروم داخلها من قرب دخول المسلمين عليهم، وضعف القائد الموكل بالجزء المنهدم من السور عن مقاومة ما يلقاه من الحصار، ومن مناوشات المسلمين لجنوده، فذهب فى الليل إلى مناطس حاكم عمورية وسأله المدد وقال له: إن الحرب علىَّ وعلى أصحابى ولم يبق معى أحد إلا جُرِحَ فأبى مناطس أن يمده بأحد. فلما أصبح اليوم التالى خرج هذا القائد إلى المعتصم وأمر جنوده وأصحابه ألا يحاربوا، وأعلن عنده بهزيمته، فدخل المسلمون المدينة وغنموا فيها غنائم لا تعد ولا توصف، حتى أمر المعتصم بحمل ما كان يمكن للجيش حمله ووجَّه بإحراق ما تركه الروم من آلات الحرب لئلا يعودوا لأخذها ويتقووا بها على قتال المسلمين.
وغدا نستكمل إن شاء الله