أحاطت برحلة الرئيس المصرى إلى الصين تطورات مثيرة وتزاحمت على ذهنى أفكار وذكريات كثيرة. كان أول ما خطر على بالى عندما سمعت أن الرئيس سيزور الصين هو أن أتوجه بنداء إلى رئيس الدولة وقائد الرحلة ليجمع قبل سفره وزرائه المرافقين له ويعقد لهم امتحانات شفوية ليمتحن بنفسه معلوماتهم عن الدولة التى سيزورونها، ويتأكد من أنهم لن يحرجوه هناك. هؤلاء يجب أن يكونوا مختلفين عن سابقيهم. لا يسافرون سعيا للراحة والاستجمام، وليس لشراء ما يلزم وما لا يلزم وبخاصة بعد أن أصبحت السوق المصرية سوقا صينية بامتياز، وليس للحصول على بدل سفر. يرافقون الرئيس فى «رحلة دولة» للتفاوض على مشاريع وعقود والاطلاع على تجارب بفضلها قفزت الصين إلى مصاف الدول العظمى فى سنوات قليلة.
وددت أن أتوجه بهذا النداء لأننى وآخرين اطلعوا على تفاصيل مخجلة لرحلات سابقة لرئيس مصرى يقود وفودا جرارة. أعرف أن وزراء فى هذه الرحلات ذهبوا إلى الصين لا يحملون ملفات ولم يقرأوا دراسات أو مذكرات تجعلهم أقل جهلا بهذا البلد وتاريخه وسياساته الدولية والإقليمية ونظم اتخاذ القرار فى مواقع القيادة السياسية. وعلى كل حال لم تكن الصين الدولة الوحيدة التى زارتها وفود من مصر، ولم تكن تعرف لماذا هى موفدة إلى الصين، وبالكاد عرف أعضاء فيها أين تقع الصين. لقد تكرر هذا النموذج فى رحلات زارت دولا عربية وأوروبية عديدة، أثق تماما فى صدق بعض المسئولين فى هذه الدول الذين عقبوا على زيارة أو أخرى من رئيس مصرى وحاشيته بأنهم بعد مباحثات ثنائية وجماعية استمرت ساعات لم يتحققوا تماما من هدف الزيارة، وكان أحد أدلة الإهمال واللامبالاة أن أحدا فى مصر، ولا السفارة المصرية تابعت نتائج الزيارة بعد انتهائها.
لم أتوجه بالنداء فى الوقت المناسب ولكنى أسارع الآن بتوجيه نداء آخر إلى السيد الرئيس، وهو أن «يمتحن» وزراءه بعد الرحلة، بعد أن فاته امتحان ما قبل الرحلة، ليسألهم عما حققوه لمصر من فوائد، ويقرر بنفسه ان كان ما حصلوا عليه من فوائد لمصر يستحق ما أنفق عليهم فى الرحلة من مال ووقت وجهد سياسى. وليكن هذا الأسلوب قاعدة العمل فى المستقبل.
لا أعرف أن كان المحيطون بالرئيس والمشرفون على تشكيل الوفد المرافق له وتجهيزه، قد اطلعوا على مقال الزميلة داليا شمس فى مقالها السبت الماضى بـ«الشروق» عن المطبخ الصينى وعلاقته بالفلسفة وطريقة تفكير الإنسان الصينى. أذكر، وكنت طالبا فى الدراسات العليا، اننى عشت لفترة منبهرا بتعقيدات لغة الصينيين وآفاق فلسفتهم وطريقة تفكيرهم. أذكر على سبيل المثال واقع أن الطفل الصينى يتعين عليه أن يتعلم فى عامه الدراسى الأول ما لا يقل عن 300 «شكل» فى الكتابة الصينية من مجموع ما يزيد على أربعين ألف شكل يجب أن يتعلمها خلال حياته ولن يتعلمها. أجابت دراستى العليا على اسئلة توقفت أمامها طويلا عند تجربتى القصيرة خلال عملى بالصين، منها مثلا ما اطلقت عليه وقتها «المسيرة الطويلة التى تفصل أو تربط بين السؤال والجواب» فى الصين، تجيب داليا شمس، دون أن تواجه السؤال مباشرة، بقاعدة «يين يانج» فى الفلسفة الصينية وهى تعنى اجتماع القوى المتناقضة وفى الوقت نفسه المتكاملة داخل كل شىء فى الوجود. اليين هو الباب المظلم والسلبى والأنثوى والأشبه بالليل الدامس، أما اليانج فهو العامل المضيئ الإيجابى النشط والذكورى والساعى دائما للارتقاء والأشبه بالنهار المشرق. بعبارة أخرى اليين يانج عملية تحول مستمرة تحدث للإنسان والكون. حين يؤمن هذا الإنسان بأن الشر ينبع من الخير والخير من الشر، والأبيض من الأسود والأسود من الأبيض، والجالس من الواقف والواقف من الجالس يصبح منطقيا أن نتوقع أن المفاوض الصينى الجالس أمامك سيحاول أن يترك النهايات دائما مفتوحة، أو على الأقل مرنة وقابلة للتغير وعديد التفسيرات.
لا شىء ثابتا فى نمط التفكير الصينى. الشىء، أى شىء، هو دائما فى حال حركة، لا يقف ولا يتوقف، ودائما وأبدا يعترف بنقيضه، أى بعكسه، الموجود بداخله والمحرك له والمؤثر فيه. لن نفهم السياسة الخارجية للصين ولا سياساتها الاجتماعية والاقتصادية الداخلية إلا لو وضعنا فى اعتبارنا أن الحكام الحاليين للصين يعتبرون أنفسهم «تطورا» ملموسا وفلسفيا لنظام الرئيس ماوتسى تونج، وهو النظام الذى آمن، إلى حدود مبالغ فيها أحيانا، بفلسفة المجتمع الذى إن لم يجد من يحركه من حين لآخر، بثورة أو تعبئة أو حركات تطهير شاملة، يجمد ويركن ثم يتعفن. ففى المجتمع الساكن ترتاح النخبة الحاكمة وتأمن إلى مستقبلها ويتملكها الغرور والثقة المفرطة بالنفس فتطغى وتفسد نفسها والمجتمع من حولها.
بشكل ما، يلخص هذا التقديم الموجز لجوهر الفكر السياسى الصينى حال الصين التى يزورها الرئيس المصرى والوفد الذى يرافقه و«المثير شكلا ومضمونا». فالصين على أبواب تغيير شامل لقيادتها السياسية، حين يجتمع مؤتمر الشعب فى الخريف القادم. يريد القادة الحاليون انتقالا سلميا وهادئا للسلطة، وهو الانتقال الأول، من جيل إلى جيل. يعلمون ان النهضة الاقتصادية الكبرى التى حققوها خلال الثلاثين عاما الأخيرة أفرزت تيارات اجتماعية متلاطمة ليس أقلها شأنا التفاوت فى الدخول بين مواطنى «الداخل» ومواطنى «الساحل»، ومئات الملايين من المهاجرين من الريف إلى المدن، والانفجار المعلوماتى والاتصالى، وهو الباب الذى تدخل منه الآن الولايات المتحدة «لإضعاف» هيمنة القادة الصينيين والحزب الشيوعى الصينى، وابطاء عملية صعود الصين عسكريا وسياسيا فى العالم.
فى هذه المرحلة الدقيقة لا يبدو غريبا أو مفاجئا تصعيد الخلاف مع اليابان على ملكية جزر سينكاكو (دياوو) فى بحر الصين الشرقى. هناك حاجة لدى قادة الصين لأن يتوحد الشعب سياسيا وراء دافع «قومى»، وان كان ثمن هذا التوحد توتر الأجواء فى محيط دول الجوار، سواء كانت بسبب خلافات على ملكية جزر فى بحر الصين الغربى وبخاصة مع الفيلبين وفيتنام واندونيسيا، أو فى بحر الصين الشرقى مع اليابان.
هناك حاجة أيضا لطمأنة الشعب إلى أن الحزب يجدد نفسه، وأن القيادة تحرص على طهارتها. لذلك اختار القادة تقديم السيدة جو كايلاى، زوجة أحد زعماء المكتب السياسى للحزب، للمحاكمة بتهمة قتل رجل أعمال بريطانى. المثير فى الموضوع هو أن هذه هى المحاكمة الثانية فى تاريخ الصين الحديث لسيدة «سياسية» من مقام رفيع فى الحزب. جرت المحاكمة الأولى لحرم الرئيس ماو بعد وفاته وفى ظروف سياسية متشابهة. الملفت أيضا ان محاكمة على هذا القدر من الأهمية تنتهى فى يوم واحد، وتذاع على التليفزيون، ويشاهدها 300 مليون مشاهد، ويحكم فيها بالإعدام مع وقف التنفيذ، لتقضى المتهمة مدة تسع سنوات فى الحبس، والملفت من جهة ثالثة، أن الأوامر صدرت بأن تتفادى الصحف والإذاعات نشر أى خبر يتعلق بالزوج، فأى ضرر يلحق به لا شك سيعود بضرر أكبر على سمعة النخبة الحاكمة فى الصين. اكتفى القادة بأن أزاحوه جانبا.
أتمنى أن ينتج عن زيارة الرئيس المصرى الجديد إلى الصين أمل فى أن شيئا قد تغير فى مصر، ولو اقتصر هذا الشىء على نية الاستفادة من ثقافة وتجربة شعب قديم كشعبنا وأمة عانت الكثير على أيدى الأجانب والطغاة كأمتنا.