الذين يفكرون بطريقة رومانسية، فى منطقتنا العربية، أو يعتقدون أن السياسة ثابتة وجامدة، سوف يندهشون تماما من انعقاد «قمة بغداد للتعاون والشراكة» ظهر السبت الماضى.
هؤلاء سوف يظلون مندهشين دائما حينما لا تسير الأمور بنفس المنطق الجامد الذى يفكرون به منذ سنوات.
لا يعنى كلامى السابق أن الصراعات والخلافات بين الدول قد اختفت، أو أننا لن نشهد محاور وأقطابا عالمية وإقليمية. بالعكس هذه الصراعات ستستمر، لأنها سمة من سمات الحياة نفسها، الفارق فقط أن الذى سيختلف هو طريقة إدارتها.
من يتأمل الحاضرين لقمة بغداد، قد يتفاجأ بأن أشد الناس تفاؤلا لم يكن يتخيل أن مصر والسعودية والإمارات من الممكن أن يجتمعوا مع قطر وتركيا فى مكان واحد، ولم يكن يتخيل أن تجلس السعودية والإمارات مع إيران. لكن ذلك حدث بالفعل.
السؤال الذى يسأله كثيرون، ما الذى جعل كل هؤلاء الفرقاء يجلسون حول مائدة واحدة؟!
الإجابات متنوعة، وتتوقف على الزاوية التى ينظر بها كل منا للحدث.
وهذا السؤال كان أحد محاور لقائى مع الإعلامى الصديق هشام عاصى على فضائية «إم بى سى مصر» صباح الأحد الماضى، برفقة الدكتور طارق فهمى أستاذ العلوم السياسية.
المؤكد أن بعض الحاضرين خصوصا مصر يريد دعم استقرار العراق وعودته لأمته العربية بأقوى ما يكون، وبعضهم يتمنى أن ينجح رئيس الوزراء مصطفى الكاظمى فى أن يكون بلده ساحة للتعاون وليس للصراعات الإقليمية والدولية، وبعضهم ربما حضر القمة من باب رفع العتب، حتى لا يكون غيابه مفهوما بأنه يعارض فكرة عقد المؤتمر، لأنه أحد أسباب عدم الاستقرار فى العراق.
لكن وإضافة لكل التفسيرات السابقة التى تظل جزئية، فإن هناك سببا جوهريا ربما ساعد فى عقد هذه القمة، وهو أن العالم الذى نعيشه، لم يعد يتعامل بالصورة القديمة التى كانت تدار بها العلاقات الدولية، خصوصا بعد انتشار فيروس كورونا وتأثيراته واسعة النطاق على كل مناحى الحياة.
قبل قمة بغداد، رأينا نموذجا لهذا النوع الجديد من الدبلوماسية بين روسيا وتركيا، الدولتان تتصارعان فعليا فى سوريا وليبيا، لكنهما يتعاونان ويتحالفان مثلا فى ملفات أخرى عسكرية واقتصادية وسياحية من أول تصدير الخضراوات والفواكه نهاية بصفقة صورايخ الإس ٤٠٠. هذا النموذج ألغى فكرة الصراع السرمدى أو المبادرة الصفرية التى لا تنتهى، وجعل البعض يلجأ إلى صيغة: «لنتفق على ما نتفق عليه، ويظل ما نختلف عليه قائما، من دون أن يؤثر على الحد الأدنى من استمرار العلاقات».
الذى دفع الأطراف المختلفة أن تجلس معا فى قمة بغداد هو أن العالم بصيغته القديمة يتغير. المخاوف والمخاطر تزيد بوتيرة عالية خصوصا بعد انتشار كورونا، وبعد الأزمات المائية الطاحنة التى تضرب غالبية بلدان الإقليم، والأزمات الاقتصادية المختلفة، وانتشار الإرهاب وفشل العديد من حكومات المنطقة فى تأمين الحد الأدنى من حاجات شعوبها سواء كانت أمنية أو اقتصادية.
ثم إن بعض الدول الإقليمية الكبرى، التى ظنت أنها قادرة على الهيمنة، أدركت فى النهاية أن الثمن سيكون فادحا، لذلك قبلت ما كانت ترفضه فى الماضى، ودول أخرى فوجئت بأن أمريكا تستعد لحزم حقائبها والرحيل عن المنطقة، بعد أن ظن هؤلاء أن الوجود الأمريكى «باق ويتمدد». والأخطر لهذه الدول أن أمريكا قد تعقد صفقة قريبا مع إيران. ثم جاء التطور الدراماتيكى فى أفغانستان، والذى نبه معظم بلدان المنطقة أن التطرف والإرهاب ما يزال مستمرا، وقد يعود قويا بعد انسحاب أمريكا وصعود حركة طالبان.
ثم إن هناك متغيرا مهما هو احتدام الصراع بين أمريكا والصين، وبالتالى فإن من مصلحة بلدان المنطقة البحث عن موطئ قدم فى ظل هذا الصراع، سواء بتجنب ويلاته أو الاستفادة من تناقضاته.
كل هذه المخاوف والتناقضات والسيولة السياسية هى التى يمكنها أن تجعلنا نفهم لماذا جلس كل الفرقاء فى بغداد، ولماذا شاهدنا صورا ومصافحات وتغريدات ولقاءات بين قادة ومسئولين، لم نكن نظن أنها ستتم، لكنها تمت.
من المهم لنا كعرب أن تتحلى عقولنا بالمرونة، حتى نفهم جيدا ماذا يفعل العالم، وكيف يدير صراعاته وصولا إلى تحقيق مصالحنا، أو الحد الأقصى منها، بدلا من أن نكون الطرف المفعول به دائما!