فى أيامنا الحالية كثر تداول كلمة «تمكين». هناك على سبيل المثال نداءات لتمكين المرأة، وتمكين المثقف، وتمكين الشباب. فى الغالب تبقى تلك الكلمة شعارا سياسيا غير محقق فى الواقع، يتلاعب به السياسيون للتأكيد على اهتمامهم بهذه الفئة أو تلك ولكسب رضى وقبول أفراد هذه الفئات.
دعنا نأخذ مثالا شعار «تمكين» للشباب العربى الذى طرح من قبل العديد من دول الوطن العربى فيما سمى باستراتيجيات 2030 كاستجابة لما طرحه زعماء العالم فى ساحات هيئة الأمم المتحدة فى عام 2015 تحت مسمى «خطة التنمية المستدامة لعام 2030».
بالنسبة للمنطقة العربية أصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائى فى عام 2016 تقريرا متميزا عن هذا الموضوع: موضوع «تمكين» الشباب العربى من الانخراط فى عملية التنمية المستدامة، من خلال تعزيز قدراتهم وتوسيع نطاق وعدالة الفرص المتاحة لهم، وذلك من أجل أن يصبحوا أحد العوامل الحاسمة فى عمليات التغيير.
إذا نحن أمام هدف نبيل. لكن هل يمكن تحقيقه دون وجود إرادة سياسية وطنية صادقة لتنفيذ كل متطلبات تحقيق ذلك الهدف؟ ذلك أن تلك المتطلبات ستصطدم مباشرة مع مصالح البعض، ومع أعراف بنيت عبر القرون، ومع مراجعة للأولويات فى صرف الميزانيات، ومع بعض مسلمات العولمة الرأسمالية المتبناة من قبل الكثيرين.
***
لندخل فى تفاصيل متطلبين أساسيين تحتاج إليهما عملية « تمكين» الشباب العربى تلك. فالتمكين يحتاج إلى خامة بشرية شبابية معقولة صالحة للتمكين المفيد الفاعل، وهو يحتاج لظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية تسمح بنجاح عملية التمكين الصحيحة غير المشوشة وغير الكاذبة التلفيقية.
بالنسبة للخامة هناك ثلاث عوائق حياتية تجعلها خامة غير متمتعة باللياقة المطلوبة. فأولا: إن أغلب الشباب العربى إما أميون، بسبب الإهمال التاريخى المستعصى لموضوع محو الأمية فى أرض العرب، وإما حاصلون على تعليم محدود مثقل بألف عيب وعيب ولا يمت بأى صلة لمتطلبات واقع العمل والوظائف فى أرض العرب ولا لإملاءات الحياة العصرية الحديثة.
وثانيا: إن أغلب أفراد الخامة يحملون ثقافة مسطحة ومتخلفة، مشوشة بالنسبة للدين والعلاقات الاجتماعية والأيديولوجيات السياسية، ومتأثرة حتى النخاع بثقافة العولمة الداعية للفردية المفرطة وللاستهلاك النهم وللتنافس المجنون وللضياع فى جنون ما يسمى بالخيارات التى لا حدود لها.
وثالثا: إن أغلب أفراد الخامة مصابون باليأس والقنوط وفقدان الأمل بالمستقبل والشك المبرر فى كفاءة مختلف القيادات المجتمعية، وذلك من جراء فواجع البطالة والفقر والتهميش وجنون الصراعات العبثية التى لا تنتهى فى طول وعرض بلاد العرب.
***
ذاك بالنسبة للخامة التى يراد تمكينها، فماذا عن الظروف السيئة التى ستجعل من عملية التمكين حرثا فى أرض يباب، وذرا للرماد فى العيون؟
فأولا: لن تنجح عملية التمكين بوجود اقتصاد ريعى يقوم على توزيع الثروة من خلال ولاءات انتهازية استزلامية أو ولاءات قبلية أو طائفية أو حزبية أو أمنية. فالاقتصاد الريعى غير الإنتاجى لا ــ ولن ــ يحتاج لشباب ينخرط فى العملية التنموية، خصوصا إذا كان اقتصادا ينخره الفساد، ولا يخضع لمراقبة شفافة مستقلة.
وثانيا: لا يمكن الحديث عن تمكين الشباب فى مجتمعات بلعتها سلطة الدولة فى جوفها، وحرمت مؤسساتها من الاستقلالية وحرية المعارضة المعقولة لأى تجاوزات من خلال تجمعات مدنية مثل الأحزاب والنقابات والجمعيات المهنية والإعلامية والثقافية. وبالتالى فغياب مستوى معقول من الحياة الديموقراطية، بسلطاتها المستقلة المتعاونة مع بعضها البعض، برقابتها القانونية والإعلامية الضرورية، بقضائها العادل، سيجعل من التمكين تدريب جنود بلا سلاح أو ذخيرة.
وثالثا: ستفشل عملية التمكين فى مجتمع تتصارع فيه الهويات، ويفتقر إلى أدوات عقلانية علمية لحل الخلافات ولإعلاء هوية المواطنة المتساوية المشتركة فوق كل هوية فرعية أخرى. وهذا بالطبع مرتبط بالقوانين العادلة وبالثقافة المتسامحة وبالمستوى الإنسانى الرفيع لأفراد المجتمعات.
واضح إن إشكالية نوعية الخامة والظروف المجتمعية تعتمد مواجهتهما وحل إشكالاتهما على مقدار الرغبة الصادقة لدى سلطات الدولة فى بلاد العرب، والسؤال: هل سلطة الدولة العربية مهيئة وعلى استعداد لأن تقوم بتلك المهمات الإصلاحية التى بدونها لا يمكن الحديث عن تمكين شباب الأمة؟ أثبتت سيرورة ثورات وحراكات الربيع العربى عبر الوطن العربى كله أن الجواب هو النفى القاطع.
قرارات زعماء العالم الرغائبية من فوق منصات قاعات هيئة الأمم المتحدة، والإعلان عن استراتيجيات التنمية الوطنية لهذا القطر العربى أو ذاك لن يكونا كافيين، بل وسيبقيان حبرا على ورق ما لم يرتبطان بتغييرات كبرى فى مقومات حياة المجتمعات العربية، وهذا سيعتمد على مقدار ما يبذله شباب العرب أنفسهم من جهد ونضالات سياسية مريرة وانخراط جدى فى المؤسسات المدنية العربية الفاعلة لتحقيق تلك التغييرات.
فى المحصلة إنها حلقة تبدأ بالشباب العربى لتنتهى بالشباب العربى.