بتاريخ 28 مايو الماضى ــ أى منذ أربعة أيام ــ تلقى الرئيس الأمريكى الجديد باراك حسين أوباما فى بريد البيت الأبيض الإنذار الأخير من أصدقاء وحلفاء إسرائيل فى الولايات المتحدة، الإنذار موقع من 329 عضوا بمجلس النواب الأمريكى يمثلون الأغلبية الديمقراطية بتوقيع زعيمها شتينى هوير، والأقلية الجمهورية بتوقيع زعيمها إيرك كانتور، وهو «الأخير» لأن رسالة مماثلةسبقته منذ أيام موقعة من 76 عضوا بمجلس الشيوخ.. والرسالتان مكتوبتان من قبل لجنة الشئون الأمريكية ــ الإسرائيلية العامة، التى تعرف اختصارا باسم «إيباك» والمكونة من رؤساء المنظمات اليهودية العاملة لمساندة إسرائيل فى الولايات المتحدة والمتعارف على وصفها بكبرى منظمات اللوبى الصهيونى الأمريكى.
هذه الرسالة الإنذار تطالب الرئيس أوباما بالعمل بأقصى درجة من الغرب والتنسيق مع إسرائيل الحليف الديمقراطى للولايات المتحدة فى سياق السعى نحو تحقيق السلام فى الشرق الأوسط، سواء عند الاتفاق بين واشنطن وتل أبيب، أو فى حالة عدم الاتفاق، باعتبار أن «إسرائيل هى التى ستتحمل أكبر المخاطر فى أى اتفاق سلام يتحقق»، على أن يلزم الرئيس الأمريكى الفلسطينيين بوقف العنف والإرهاب والتحريض لأنه عندما يحدث ذلك، ولا يعود والإرهابيون يحكمون غزة، وتصبح السلطة الفلسطينية قادرة على ضبط الأمن سيكون الوصول إلى اتفاق سلام أسهل، ثم عليه ــ أى على الرئيس الأمريكى ــ حث الدول العربية على التحرك الأسرع والأوسع نحو علاقات طبيعية مع إسرائيل، ونحو تأييد الفلسطينيين المعتدلين.
من الواضح أنه لا حاجة لإثبات أن هذه الرسالة تدعو الرئيس الأمريكى لتبنى الرؤية الإسرائيلية بالكامل، من حيث الشروط، والأولويات، وهى رؤية لا تلتزم بشىء، وتترك كل النهايات مفتوحة، وتركز فقط على التفاوض، وكأن التفاوض غاية فى حد ذاته، مع النص كما جاء فى الرسالة على أن يكون هذا التفاوض هو مهمة ومسئولية الأطراف نفسها أولا وأخيرا.
وهناك قراءتان لهذه الرسالة من أغلبية أعضاء مجلس النواب، والرسالة السابقة عليها لغالبية أعضاء مجلس الشيوخ.. القراءة الأولى هى اعتبارهما رسالتين روتينيتين اعتاد أصدقاء إسرائيل وحلفاؤها توجيه مثليهما لكل رئيس أمريكى فى بداية حكمه، أو عندما يشرع فى التعامل الجاد مع قضية السلام فى الشرق الأوسط.
أما القراءة الثانية فهى التى بدأنا بها هذا المقال، وهى أن اللوبى الصهيونى يوجه إنذارا أخيرا للرئيس أوباما قبل أن يدخل مصر فى مواجهة أو فى معركة تكسير عظام بسبب ما يتوقع على نطاق واسع فى الولايات المتحدة، وسائر أنحاء العالم، من أنه سيضغط على إسرائيل للكف عن المراوغة، ووقف تكتيكات استهلاك الوقت، وإدارة الأزمة، ومن ثم تقديم استحقاقات السلام المطلوبة منها، باعتبار أن السلام فى الشرق الأوسط، وعلى الأخص تسوية القضية الفلسطينية، أصبح مصلحة أمريكية مباشرة، وشرطا جوهريا لتحقيق الانتصار الأمريكى (السلمى أو العسكرى) فى الحرب ضد الإرهاب الأصولى وفى احتواء أو ترويض الخطر الإيرانى، وفى ترتيب أفضل الأوضاع السياسية والأمنية فى العراق، وفى منطقتى المشرق والخليج العربيتين.
وإذا كان من المستحيل القطع بأن هذا هو بالضبط ما يفكر فيه الرئيس الأمريكى، أو ما ينوى عمله، أو ما سينجح فى تحقيقه، فهناك الكثير من الشواهد على أن إسرائيل وحلفاءها وأصدقاءها فى الساحة الأمريكية يشعرون بأنهم أمام رجل مختلف فى البيت الأبيض، وأنهم أمام ظرف تاريخى قد يضع حدا لعلاقة التطابق الكامل بين السياسة الإسرائيلية والسياسة الأمريكية فى الصراع العربى ــ الإسرائيلى.
ربما يكون أقوى هذه الشواهد هو السياق الاستراتيجى والسياسى الذى جاء فيه أوباما رئيسا، وإجمالا فالرجل قد جاء «استراتيجيا» على أنقاض هزيمة المشروع الامبراطورى للمحافظين الجدد وإدارة بوش، ومن ثم فلا سياسات انفرادية، ولا اعتماد على القوة العسكرية وحدها لتحقيق الأمن وفرض القيادة العالمية، أما «سياسيا» فالرجل قد جاء على أكتاف فقراء الطبقة الوسطى، والطبقة الأدنى، وعلى أكتاف وجيوب الأجيال الشابة، مؤيدا من الليبرالية، وكل أصحاب الفكر التقدمى عموما، لذا فهو مؤهل لعدم الرضوخ لقوى الضغط التقليدية بما فى ذلك اللوبى الصهيونى.
ثم إن الرجل ــ وفيما يتعلق بالشرق الأوسط ــ جاء فى سياق أزمة حادة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامى، وأجمعت كل الآراء ــ باستثناء إسرائيل وأصدقائها والمحافظين الجدد ــ على أن الظلم التاريخى الواقع على الشعب الفلسطينى هو أساس وأصل هذه الأزمة، وقد انتخب الرجل ضمن ما انتخب من أجله لإيجاد حد لهذه المعضلة، غير أن الوعى بخطورة التطابق المطلق مع إسرائيل كان سابقا أيضا على اشتعال الأزمة بين أمريكا والمسلمين بسبب هجمات 11 سبتمبر، لدرجة أنه يمكن القول إن تيارا فى النخبة الأمريكية أخذ فى التشكل واكتساب الزخم، قبل انتخاب أوباما بسنوات عريضة، وقد عبر هذا التيار عن نفسه فى الأزمة بين جورج بوش الأب وحكومة إسحق شامير الإسرائىلية، وفى التزام الرئيس التالى بيل كلينتون شخصيا بالسعى نحو السلام لدرجة استضافة قمة بين عرفات وباراك.. إلخ.
لكن كان من مفارقات السياسة الأمريكية أن هذا التيار كان يراهن على بوش الابن لكى ينفذ ما عجز عنه سابقوه، ويتذكر كاتب هذه السطور أنه سمع من الجنرال برنت سكوكروفت مستشار (بوش الأب) لشئون الأمن القومى، ورئيس مجموعة مستشارى السياسة الخارجية للمرشح الرئاسى (بوش الابن) أن هذا الأخير هو الذى سيحل مشكلة الشرق الأوسط، وأنه من سينهى التطابق الأمريكى ــ الإسرائيلى، ويعطى الفلسطينيين دولتهم، كذلك قال مثل هذا جون برسيا أستاذ العلوم السياسية والكاتب ورئيس تحرير أحد أكبر صحف فلوريدا، فى سياق تزكيته للمرشح بوش الابن، وفى حديث مع الكاتب أيضا فى مدينة أورلاندو عام 2000، وأضاف روبر ميلر مدير مخابرات البنتاجون فى الشرق الأوسط سابقا تأكيدا لتلك التوقعات.. فى حوار مع الكاتب فى الوقت والمناسبة نفسيهما.. لكن الذى حدث أن بوش وإدارته اختطفا، أو سلما نفسيهما «لأحقر» أصدقاء إسرائيل من المحافظين الجدد بعبارة الكاتب الكبير جهاد الخازن، بغض النظر عما إذا كانت هجمات سبتمبر هى السبب أو الذريعة.
على أى حال ليست كل الشواهد آتية فقط من استقراء السياق، أو من وقائع الماضى، فهناك شواهد جديدة ناطقة أبرزها وأكثرها دلالة مقال جديد لداعية السلام الإسرائيلى العجوز أورى أفنيرى، نشره تحت عنوان «الصوت الهادئ.. والعصا الغليظة» وفى هذا المقال يكذب أفنيرى كل ما روجه بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلى عن حدوث تفاهم بينه وبين الرئيس الأمريكى فى لقائهما الأخير فى البيت الأبيض، وقد عدد كاتب المقال كل أوجه الخلاف الحادة بين الرجلين فقد عاد نتنياهو متخليا عن الإصرار على رفض وجود إيران نووية ومتحدثا فقط عن رفض إيران مسلحة نوويا، بمعنى أنه يقبل برنامجا نوويا إيرانيا سلميا، كذلك رفض أوباما المهلة التى سبق أن حددها نتنياهو لتوجيه ضربة عسكرية لإيران، وهى المهلة التى حددها رئيس الوزراء الإسرائىلى بحلول شهر أكتوبر المقبل، إذ تحدث أوباما عن مهلة تمتد حتى بداية العام الجديد، وبعدها يفكر فى فرض عقوبات جديدة مؤثرة على إيران، وليس ضربة عسكرية، وكان نتيناهو يشترط حل المعضلة الإيرانية قبل أن يتعامل مع القضية الفلسطينية، لكن أوباما جعل التقدم فى حل المشكلة الفلسطينية شرطا مسبقا للتقدم فى المسألة الإيرانية، ناهيك بالطبع عن الموقف الحازم والحاسم ضد استمرار التوسع الاستيطانى فى الضفة الغربية، وحسب أفنيرى فهذه هى الجبهة التى سيحارب فيها نتنياهو حتى لا تسقط حكومته، فيضطر للتحالف مع غريمته تسيبى ليفنى زعيمة حزب كاديما، ولن يكون أمامه إلا استخدام باراك ضد باراك، أى إيهود باراك ضد باراك أوباما فيعهد إلى وزير الدفاع بمهمة إزالة المستوطنات العشوائية لتحويل الانتباه عن التوسع الاستيطانى فى المستوطنات القائمة بحجة استيعاب الزيادة الطبيعية فى السكان، بينما يتحمل إيهود باراك اللوم من جانب المستوطنين، لكن ذلك ليس إلا تأجيلا للحظة مواجهة الحقيقة التى سوف ينفجر الموقف عندها بين إسرائيل «الليكودية» وأصدقائها وحلفائها داخل الولايات المتحدة وبين أوباما.. والقوى التى تسانده فى الداخل الأمريكى، وإذا كان لنا أن نتنبأ بنتيجة لهذه المواجهة، فهى أن احتمالات انتصار الرئيس الأمريكى أكثر كثيرا من احتمالات هزيمته، لسبب يلخص كل الأسباب السالف شرحها، وهو أن هذا الرئيس أول رئيس أمريكى منذ الرئيس إيزنهاور، لديه من الشعبية ما يكفى لمواجهة جماعات الضغط، وأنه نفسه جاء إلى السلطة على الرغم من إرادة هذه الجماعات.