فى مثل هذا اليوم قبل عام مضى غادرت «مريم فكرى» الحياة، لم ترحل هى وكل من راحوا معها فى تفجير كنيسة القديسين، فى حادث طريق، لم تمت بين خيط الصواب وخيط الخطأ، لم يقصدها قاتلها لأنها ظلمته يوما أو اعتدت على حقه مرة، لم يكن فى رقبتها قصاص لأحد، لم تحمل الجميلة الشابة وزرا فى حق قاتلها، هو قتلها لأنها مسيحية وفقط.
لم يخرج القاتل ليقتل مريم التى لا يعرفها سوى لأنها مسيحية، هكذا تعلم وهكذا نشأ حاكما على الآخرين بالموت ليس لشىء سوى أن الأقدار اختارت له هوية دينية، واختارت للآخرين هوية أخرى، دون فضل أو سعى أو اختيار من أيهما؟
ماتت مريم ليلة عيد، لأن هناك من ترك ثقافة تنمو تنظر للآخر باعتباره مستحقا للموت بالضرورة لمجرد اختلافه الدينى، سلطات رسمية استخدمت هذا الفزع لتستبد بالمسلم والمسيحى معا، وتشوه الإسلام وعقوله الراجحة قبل العقول الغشيمة، وسلطات دينية تربحت منه سياسيا لتحتكر المسيحى احتكارا كاملا وتحصره داخل أسوار كنيسته، ومجتمع غرق فى التفسيرات الطائفية للموت، فلم يعد يقوى على الانحياز الأخلاقى لحق الحياة، وفتاوى دينية فتحت الباب أمام تصاعد النظرة المعادية للآخر، وضعت سلمة التمييز والرفض، فصعد المتشددون على هذه السلمة، ليبنوا فقه قتل الأبرياء وتفجير الكنائس.
لا تتذكر «مريم فكرى» لتنكأ جراحا تخص المجتمع كله قبل ذويها، لكن لتعالجها حتى تكمل التئامها، كانت الثورة إحدى وسائل العلاج الناجز، ما قامت إلا بحثاُ عن العدل لكل الناس، لكن جرحا أليما جديدا واجهها حين غادر «مينا دانيال» مدهوسا تحت عجلات المدرعات هو ومن كان معه أمام «ماسبيرو»، السلطة بقيت هى السلطة، وحين احتاجت لتبرير القتل طائفيا لم تتورع عن ذلك، وجاءت أعياد الميلاد لتشهد جدلا لا يليق بمجتمع «مسلم» قبل مجتمع حضارى: نهنئهم بالعيد أم لا؟ نواب الشعب الذين تفرض عليهم أماناتهم الإنابة عن كل الشعب «المسلم والمسيحى».. «المنتقية والمحجبة والسافرة»، يرفضون أن يهنئوا بعضا من شعبهم بأعيادهم، وكأنهم نواب من يشبههم فقط، ها هى أيضا الفتاوى الصغيرة التى تخرج منها بعد ذلك استنباطات الرفض والقتل تتردد برواج هائل.
هل يعود المسيحى إذن خلف أسوار كنيسته، يلجأ إليها فى كل شىء ويتظاهر عندها من أجل أى شىء، تتفاوض باسمه مع السلطة أو تقايضها؟ كان حلم «مينا دانيال» أن يراه فى المجتمع كما كان فى الميدان «مصرى وكفى»، هل تمنح الثورة للجميع خطوة للأمام بينما تدفع بالمسيحيين خطوتين للخلف؟
تنقلك هذه الأسئلة إلى مريم أخرى.. طفلة فى الصف السادس الابتدائى، انتزعت حقها فى العيد، بنضال مدنى قد لا تستوعبه.. شعرت مريم أرمانيوس أنه مطلوب منها ألا تستمتع بالعيد لأنها مسيحية، ومطلوب منها أن تخوض امتحانا مهما فى اليوم التالى للعيد مباشرة، لكنها لم تستسلم لعقدة الاضطهاد ولم تشك لكاهن كنيستها، لكنها واجهت الدولة كمواطنة حتى غيرت وزارة التعليم مواعيد الامتحانات.
كيف ينام جرح مريم فكرى ويتحقق حلم مينا؟.. حين نبنى لـ«مريم أرمانيوس» وطنا عادلا يليق بالإنسان كونه إنسانا.