لم تكن ساحة حرب أكتوبر على الجبهة المصرية والسورية فقط، وإنما في المكاتب المغلقة بين واشنطن والقاهرة ودمشق وتل أبيب «القدس المحتلة»، وهذه النقاشات الساخنة خلف الستار أخطر وأشد وطأة؛ لأنها محرك أساسي لما يدور على أرض الواقع من قتال مسلح؛ لذلك يبرز الاهتمام بالاستماع لشهادات الحرب من داخل هذه المكاتب، ولا يوجد أفضل من هنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا وقت حرب أكتوبر كأحد الشهود المهمين على المفاوضات.
بعد تجاوزه عامه المئة مازال كيسنجر قادرا على سرد الحكايات عن انتصار أكتوبر، وذلك برز في آخر لقاءاته الصحفية مع أفينوعام بار يوسف لصالح صحيفة جورزاليم بوست، ضمن سلسلة من التقارير واللقاءات التي تجريها الصحافة الإسرائيلية لإحياء ذكرى هزيمتهم في حرب أكتوبر التي وقعت عام 1973، ويمر ذكراها الـ50 هذا العام.
- «إسرائيل ستصل إلى الإسكندرية في أيام»
عندما سأله المحرر عن ملاحظاته قبل الحرب على الوضع الأمني قال كيسنجر: «لقد أصبحت وزيرا للخارجية قبل أسبوعين من بدء الحرب، لكنني كنت مستشارا للأمن القومي لمدة 4 سنوات ونصف قبل ذلك، ولم تتضمن التقارير الاستخباراتية التي تلقيتها أي معلومات غير عادية، وبعدها رأيت تقاريرا عن تمركز القوات العسكرية المصرية، لا أتذكر أنهم أبلغوا عن أي شيء عن السوريين، لكنهم كانوا بالتأكيد يبلغون عن حشد عسكري، واعتقدنا أن ذلك لا يعني الكثير لأنه في السنوات السابقة كان الرئيس المصري أنور السادات يهدد كثيرًا ولم يفعل شيئًا، شعرت بعدم الارتياح إزاء تطور الوضع، لكن لم تكن هناك أخبار تدعم المخاوف، لقد حاولت إسرائيل طمأنتنا وكانوا يخشون أن نتعرض للضغط ولذلك قالوا لنا إنهم لا يرون أي سبب للقلق".
وأكد أن المخاوف لم تظهر من حرب فعلية إلا يوم الجمعة 5 أكتوبر، عشية هجوم الجيش المصري.
وأضاف كيسنجر: «كان القرار هو استغلال الهجوم المصري للترويج للعملية السياسية، وكان القلق بين المستشارين الأميركيين هو أن إسرائيل ستنخرط في المعركة سريعا، كنا نظن أنه في غضون أيام سيصل الجيش الإسرائيلي إلى الإسكندرية حتى قبل أن تطأ أقدام المصريين سيناء».
• «صممنا على منع النصر العربي»
قال كيسنجر، إنهم أدركوا حقيقة الوضع بعد يوم من بداية الهجوم منتصف يوم الأحد: «كان من الواضح أن الجيشين المهاجمان قد أحرزا تقدمًا كبيرًا، لكننا صممنا منذ البداية على منع النصر العربي الذي كنا ننظر إليه على أنه انتصار سوفييتي، لقد كنا على قناعة تامة منذ اللحظة الأولى بأننا سنعيد الوضع إلى ما كان عليه، ولكن بحلول نهاية اليوم الأول كان من الواضح أن الجيوش المهاجمة حققت تقدما واسع النطاق.
وذكر أن مشهد المعركة كان مختلفًا تمامًا عما تخيله الخبراء الأمريكيون، عندما عرفت أنباء الهجوم المصري واندلع القتال تمكن المصريون من اختراق خط بارليف وتسلل أكثر من 100 ألف جندي وحوالي 400 دبابة ووحدات كوماندوز إلى سيناء وبنيت عدة جسور فوق القناة.
وفي الأيام الأولى من الحرب، كانت إسرائيل تفقد ما يقرب من 200 مقاتل يوميا، وتم القبض على العديد من جنود الخط الأول الإسرائيلي، وفي الأيام الثلاثة الأولى من القتال، فقدت القوات الجوية الإسرائيلية 49 طائرة وتضررت 500 دبابة في سيناء.
أما عن وضع ديان ومائير، قال كيسنجر: "لقد ذهلت الحكومة، وكان وزير الدفاع موشيه ديان ورئيسة الوزراء جولدا مئير على وشك الانهيار، وسرعان ما أصبحت الحاجة إلى استبدال الطائرات التي تم إسقاطها واضحة، وكانت الذخيرة ضرورية لتعويض النقص الذي تم اكتشافه خلال الساعات الأولى من الحرب، حيث كان هناك نقص في ذخائر المدفعية في مستودعات الطوارئ وتم اكتشاف أن المعدات صدئة جزئيًا وغير صالحة للاستخدام".
وأضاف: "ما فعلناه كان التزامًا تجاه إسرائيل، ولكنه كان أيضا جزءًا من استراتيجية لطرد السوفيت من الشرق الأوسط، لذلك بالنسبة لي ونيكسون منذ البداية، أردنا استخدام الحرب للحفاظ على إسرائيل، ولكن في السياق الأمريكي كان هناك سبب آخر وهو إزالة الوجود الروسي من المنطقة".
يذكر أن هينري ألفريد كيسنجر ولد في فورث بألمانيا لعائلة يهودية، وكان والده لودفيج مدرسًا، وكرست والدته حياتها لتربيته هو وأخيه، وكانت حياتهم مستقرة حتى وصول النازيين إلى السلطة، وكان هنري نشطًا في حركة شباب أغودات إسرائيل عندما كان مراهقًا وبعد صعود النازيين انتهى هذا الأمر.
وفي عام 1938، تمكنت عائلته من الفرار إلى الولايات المتحدة عبر بريطانيا، وخلال الحرب العالمية الثانية تطوع في الجيش الأمريكي، وبفضل معرفته باللغة الألمانية وقدراته انخرط في الاستخبارات العسكرية في أوروبا، وكانت هذه مقدمة لانطلاقته الأكاديمية والسياسية.