53 عاما مضت على افتتاح السد العالي في 15 يناير 1971. انتهى المشروع، الذي استمر العمل فيه 11 عاما، ولم تنته ذكريات "بناة السد".
أجواء عمل وظروف معيشة يحكيها عبر «الشروق» اثنان من المهندسين المشاركين في تشييد السد العالي، الذي وصفته اللجنة الدولية للسدود الكبرى بأنه "أعظم مشروع هندسي في القرن العشرين".

بصمة السد العالي
"ترك فينا بصمة، وكوّن شخصياتنا" يتحدث المهندس صبري العشماوي، عن مشاركته في بناء السد العالي، مضيفا: "التحقت بالمشروع وعمري 21 سنة وتركته وأنا بعمر 30 سنة، تكويني الشخصي الأول بالكامل كان هناك".
يتذكر العشماوي كيف التحق بمشروع، قائلا إنه قدم طلبا في مكتب تابع لوزارة السد العالي بشارع باب اللوق بمحافظة القاهرة، فور تخرجه في كلية الهندسة، مضيفا: "كانت أول مرة أغادر القاهرة، ولم يكن الأهل يعتقدون أننا سنتحمل الغربة لمدة طويلة".
وتابع: "سافرنا إلى أسوان بالقطار، واستقبلنا مندوب العلاقات العامة، واصطحبنا إلى استراحة حيث قضينا الليلة الأولى، وصباح اليوم التالي انتقلنا إلى موقع المشروع، حيث قابلتنا يافطة كبيرة تشير إلى الزمن الباقي لإتمام العمل وأصوات انفجارات في المنطقة الجبلية المحيطة".
المهندس صبري عشماوي
130 شهيدا
هذه الانفجارات كانت سببا في استشهاد وردية كاملة تضم 130 عاملا في وقت لاحق بالمرحلة الأولى من المشروع، بعدما سقطت عليهم الصخور، كما يشير العشماوي، في حديثه لـ«الشروق».
عمل العشماوي خلال الفترة من 1962 حتى 1970 في المتابعة الفنية، التي كانت معنية بمراجعة تنفيذ المشروع وفق البرنامج الزمني، كما كانت حلقة وصل بين القيادات وبين المهندسين الصغيرين، حسبما يصف، مؤكدا أن موقع المشروع كان كخلية النحل، العمل 24 ساعة يوميا، على 3 ورديات.
ويتذكر أن القيادة السياسية كانت موجودة باستمرار في موقع المشروع، رئيس الوزراء والوزير ونوابه ورؤساء القطاعات، كمان كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر دائم التردد على المشروع، ما سمح بحل أي مشكلات تظهر سريعا.
إقامة في مستعمرات
وتابع: "أقمنا في مستعمرات، منها مستعمرة ناصر، ومستعمرة كيما، والسيل القديم، وكل فئة من العاملين تقيم في مستعمرة مختلفة"، موضحا أنها كانت وحدات سكنية جاهزة، يقيم في كل واحدة فردين إلى ثلاثة أفراد.
ويشير إلى أنه قرب هذه المستعمرات كانت توجد أندية، ومنها كيما وصحاري والتجديف، وكانت تقدم وجبات كاملة مقابل 3 و10 ساغ، كما كانت متنفسا للترفيه حيث كانت تقدم إلى جانب مركز الثقافة حفلات عديدة للعاملين في السد العالي، بدعم من الهيئة، المعنية بالمشروع، التي وفرت كذلك الرعاية الطبية والمواصلات من القاهرة حتى المستعمرات بالمجان تماما.
كما يتذكر العشماوي أن الهيئة وفرت له وحدة سكنية مكونة من غرفتين وصالة، مجهزة بالكامل، قرب موقع المشروع، بعد ٣ أشهر فقط من عقد قرانه في عام 1969، مضيفا: "وكان راتبي 30 جنيها، وهو رقم كان كبيرا بمقاييس وقتها"، مضيفا: "وأخيرا انتهى العمل بالمشروع في جو من المحبة بين العاملين".
جمعية بناة السد
ويشير إلى أن التواصل بين العاملين لم ينقطع بمرور السنين، وفي عام ٢٠٠٦ أنشأوا جمعية باسم "بناة السد العالي"؛ لضمان استمرار التواصل، موضحا أن لها مقر في القاهرة وآخر بأسوان،
كما نوه العشماوي، وهو الرئيس الحالي للجمعية، بأن لها أنشطة عديدة، منها توثيق جميع الأوراق والمستندات الخاصة بالمشروع في 14 مجلدا، وبدأت في طباعتها، بالاشتراك مع المؤسسة المصرية للثقافة والعلوم، وتستهدف توزيعها على وزاراتي الكهرباء والري ومتحف النيل في أسوان والمكتبات العامة والجامعات ومراكز البحوث.
وتابع: كما دشنت صفحة على موقع فيسبوك تؤرخ لمراحل السد العالي، وهي أيضا حلقة وصل بين العاملين السابقين والحاليين في هيئة السد العالي، كما تعقد ندوات علمية يحاضر فيها متخصصين، والاحتفال بالمناسبات المهمة في مراحل بناء السد العالي،
وحصلت الجمعية على قرار جمهوري بصرف معاش استثنائي للعاملين بمشروع السد العالي، بجانب الدروع والأوسمة التي حصلنا عليها.
نصر أكتوبر
ويختم العشماوي حديثه بالإشارة إلى أن السد العالي كان له دور في نصر أكتوبر من خلال اللواء باقي زكي، صاحب اقتراح استخدام مدافع المياه في تدمير خط بارليف، مضيفا: "كان منتدبا من القوات المسلحة ويعمل معنا في السد العالي".


6 سنوات في أسوان
ويتذكر المهندس رشدي عطية هو الآخر 6 سنوات قضاها في العمل بالمشروع، قائلًا: "ذهبت إلى أسوان على مضض ومشيت منها أبكي فراقها والسبب هو السد العالي".
عطيّة الذي تخرج في كلية الهندسة بجامعة القاهرة عام 1963، تبددت مساعيه للعمل في القاهرة، حيث تقيم الأسرة، بقرار أعاد تكليفه بالعمل في السد العالي، بعد أشهر قليلة قضاها في مصنع 135 الحربي بمنطقة حلوان.
"كنّا 26 مهندسا ميكانيكيا التحقنا معًا بمصنع 135 الحربي، ولسوء حظي أو هكذا ظننت وقتها، صدر لي منفردا قرار إعادة تكليف للعمل بالسد العالي"، يقول عطية.
عمل المهندس رشدي عطية في ورشة الحَقن، التي يستخدم أفرادها طلمبات تضخ الطمي الأسواني في الفواصل والفراغات بين الصخور الركامية، التي بني منها السد، حسبما يصف في حديثه لـ«الشروق».

المهندس رشدي عطية
تحويل مجرى النهر
تمضي الأيام، بينما ينغمس عطية في عمله بالوردية الأولى التي تمتد من السابعة صباحًا حتى الثالثة عصرًا، يبدأها بمطالعة لوحة عملاقة في مدخل المشروع تشير إلي الزمن الباقي لإتمام الأعمال، تتصدّرها عبارة "يا بناة السد" وتحدّث يوميا بما تبقى على "تحويل مجرى النيل الخالد"، وهو الحدث الذي وصفه بـ"الحاسم" في عمر المشروع.
"الدنيا كلها مجتمعة الساعة 7 صباحا من أول الوزير حتى المهندس الصغير، العمل مستمر 24 ساعة، لم يتوقف لحظة حتى انتهينا من المشروع، وكان الحماس يغطي على صعوبات العمل"، يقول المهندس رشدي عطية عن أجواء العمل في السد العالي.
وأضاف: "منحتنا إدارة المشروع حرية المبادرة والتصرف في حدود سلطات واختصاص كل فرد منا، وأعطونا إحساس بأهمية مشاركتنا في المشروع، فخلقوا فينا ثقة عوضت الخوف الطبيعي لمهندسين صغار يتحملون مسئولية كبرى".
وتابع: "كان راتبي 34 جنيها، وهو مبلغ مقبولا وقتها، وكان الجميع مشغولا بالعمل، من بجوارك يعمل، ومن أمامك يعمل؛ لا وقت للمقارنة مع آخرين، ولا أعتقد أن مشروعا آخر سار بهذه الكيفية".
روح وحياة
ويصف المهندس رشدي عطية، السد العالي بأنه "روح وحياة ولم يكن أبدًا مشروعا أصم"، مضيفًا: "اختلطنا به واختلط بنا، غيرنا وعلمنا، وأثّر فينا جميعا، وحتى الآن نحلف بأيام العمل هناك".
ويؤكد عطية أن السد العالي "حصن أمان لمصر"، وأنه يخضع إلى أعمال الصيانة الدورية اللازمة، وهو ما لمسه في أثناء زيارته الأخيرة إلى موقع المشروع، قبل سنوات قليلة.

على قمة الأولويات
وبدوره، قال وزير الموارد المائية والري، الدكتور هاني سويلم، إن عدد العاملين في بناء السد العالي تجاوز ٣٤ ألفا، متوجها بالتحية لكل من شارك، وما زال يشارك، في هذه "الملحمة التاريخية" وترويض الطبيعة الصخرية في جنوب مصر.
وأكد سويلم، في تصريحات لـ«الشروق»، أن وزارة الري تضع السد العالي على قمة أولوياتها في الصيانة والمتابعة المستمرة بالتقنيات الحديثة؛ لاستمرار دوره في العطاء والعمل بكفاءة.
وأشار إلى أن السد العالي حمى مصر من مخاطر الجفاف والفيضانات، وساهم في زيادة الرقعة الزراعية وتعديل نظام الري إلى الري الدائم، وحسّن أيضا المجرى الملاحي للنيل بمصر، ووفر المرونة في التخطيط الزراعي ونوعية المحاصيل، فضلا عن إنتاج ١٥ ألف ميجاوات من الطاقة الكهربائية المولدة من محطة الكهرباء.
ووصف وزير الري السد العالي بأنه ركيزة التنمية والعطاء، مضيفا أن المشروع، الذي يعد أعظم عمل هندسي في القرن العشرين، سطرته الأيادي المصرية التي أثبتت أنها قادرة على البناء والتحدي لتحقيق النهضة لمصر.

محطات مهمة
ونوه سويلم بأن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وضع حجر الأساس لأعمال المرحلة الأولى في 9 يناير سنة 1960، وأنه فجّر في ذلك اليوم أول شحنة من الديناميت نسفت كميات هائلة من صخر الجرانيت في قناة التحويل- حوالي 20 ألف طن- إيذانا بالبدء في السير في تنفيذ أعمال المرحلة الأولى للمشروع بالإضافة إلى إقامة محطة توليد الكهرباء في الضفة الشرقية من النهر.


وأضاف أن مصر احتفلت في منتصف مايو 1964 بتحويل مجرى النيل، وهو الحدث الذي وصفه بـ"الإنجاز التاريخي"، وانطلقت الشرارة الأولى من محطة الكهرباء في أكتوبر 1976، وافتتاح المشروع رسميا بحضور الرئيس الراحل محمد أنور السادات في 15 يناير 1971، الذي اعتبر عيدا قوميا لمحافظة أسوان.

