خلف الزجاج.. حين تصبح التذكرة نافذة لكشف أسرار الحياة اليومية - بوابة الشروق
الخميس 19 سبتمبر 2024 10:02 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خلف الزجاج.. حين تصبح التذكرة نافذة لكشف أسرار الحياة اليومية

أسامة زكريا
نشر في: الخميس 19 سبتمبر 2024 - 10:59 ص | آخر تحديث: الخميس 19 سبتمبر 2024 - 2:42 م

في صمت إحدى محطات المترو الذي يمزقه صوت القطار القادم، يتجلى مشهد يومي متكرر، الركاب يقفون على الرصيف كأشباح متعبة، عيونهم تراقب الأفق بانتظار اللحظة التي تتوقف فيها العجلات. تحت ضوء المصابيح الخافتة، تبدو الوجوه مرهقة، الأكتاف مثقلة بتكرار الأيام وسلطة الروتين. الهواء في المحطة مشبع برائحة المعدن القديم والغبار المتراكم، يلامس الأنفاس الثقيلة التي تملأ المكان.

في خضم هذا المشهد الصاخب، يبرز أحمد كعاشق للروتين الذي لا ينتهي، يجلس خلف زجاج شباك التذاكر، يراقب الركاب بعينيه اللتين لم تفارقهما التعب منذ سنوات. في كل وجه يعبر أمامه يرى قصة مختلفة، لكنه يعرف أن القاسم المشترك بينهم جميعا هو تلك النظرة المتعجلة والرغبة في الانتهاء من هذا الطقس اليومي المتكرر. يدرك أحمد تماما كيف أرهقتهم الحياة، وهو نفسه لم يعد يشعر بأن يومه يختلف عن يومهم، سوى أنه يجلس خلف هذا الزجاج البارد، يقدم التذاكر بلا توقف.

كل صباح، يبدأ أحمد يومه، قبل أن تتفتح السماء على ضوء الفجر. يرتدي قميصه الأزرق المخطط بعناية، كأنه درع يحميه من هموم الحياة اليومية. ينطلق من بيته المتواضع في حي شبرا، متجها إلى قلب القاهرة الذي لا يهدأ، فيما تمر في ذهنه صورة ابنتيه التوأم وهما تستعدان للذهاب إلى المدرسة. كل يوم يراهما يكبران أمام عينيه، وكل يوم يقوى حلمه بأن تصبحا طبيبتين، قادرتين على مساعدة الفقراء، كما كان يحلم دائما.

عندما يصل أحمد إلى المحطة، يبدأ يومه بطقوسه المعتادة. يحتسي فنجان قهوته الساخنة ببطء، مستمتعا بلحظات الهدوء التي تسبق بدء العمل. بين رشفة وأخرى، يتبادل التحيات مع زملائه، الذين يكنون له احتراما خاصا، ويشيدون بجديته في العمل وطيبته. يبدو كأنه نقطة الضوء وسط زملائه، يشاركهم ابتسامات عفوية ويستمع إلى قصصهم الصغيرة، ما يعزز علاقاته الودية معهم. هذه اللحظات القصيرة من التواصل تمنحه القوة ويشعر بأن المحطة ليست مجرد مكان عمل، بل بيت ثاني يجمعه بأشخاص يشاطرونه جزءا من حياته اليومية.

من بعيد، تبدأ الجموع بالتوافد نحو المحطة كتيار بشري يتدفق بلا توقف. رجال ببدلات رسمية وربطات عنق أنيقة، وجوههم مشدودة بهموم العمل ومسئوليات الحياة. إلى جانبهم، تمضي النساء العاملات بخطوات واثقة نحو وجهتهن. وفي نفس المشهد، تتابع الأمهات سيرهن برفقة أطفالهن الصغار، الذين يركضون إلى جانبهن بعفوية. بعضهن يحمل أكياس التسوق، التي تخفي جزءا من تفاصيل يومهن الطويل.

العمال، بملابسهم المتسخة وأيديهم القاسية، يتنقلون بخفة وسط الزحام، كأنهم معتادون على تحدي الصعاب. أما الطلاب، فهم يندفعون بسرعة أكبر، محملين بكتبهم الثقيلة وأحلامهم المتأرجحة بين النجاح والخوف. وحتى كبار السن الذين يواجهون الحياة ببطء، ينضمون إلى هذا التدفق الحثيث، بخطوات متمهلة، لكن عيونهم تحمل نفس الترقب. الجميع يسعى لهدف واحد: الوصول إلى شباك التذاكر في سباق غير معلن مع الزمن.

وفيما يمضي اليوم بتسارع كالمعتاد، يواصل أحمد عمله، مدركا جيدا انطباع البعض عنه كموظف شباك التذاكر "الممل"، يلاحظ تلك النظرات المتحفزة التي تخفي وراءها استعجالا وضيقا. يفهم أن الركاب يرغبون في إنهاء هذا الطقس اليومي بأسرع ما يمكن، لكنه يعلم أن هذا لا يثنيه عن تقديم عمله بهدوء وروية: "كل واحد قدامي عايز يخلص بسرعة، بس أنا بعمل اللي عليا عشان الدنيا تمشي بهدوء".

وسط الأجواء المتوترة، تقدم رجل خمسيني نحو الشباك. لم تكن خطواته المترددة مجرد علامة على التعب، بل كان هناك شيء أكبر يظهر على ملامحه. عندما اقترب، همس لأحمد بأدب: "بصراحة مش معايا فلوس أشتري تذكرة". في تلك اللحظة، اختار أحمد أن ينفصل عن تلك الضغوط اليومية، واتبع قلبه. أخرج من جيبه نقودا ودفع ثمن التذكرة للرجل الذي ابتسم بخجل وقال: "ربنا يكرمك ويخليك لأهلك". تلك الكلمات البسيطة، تركت أثرا عميقا في أحمد، ذكّرته أن الحياة لا تُقاس فقط بالأرقام أو بعدد التذاكر المباعة، بل بتلك اللحظات الإنسانية التي تجعل الروتين اليومي أكثر معنى.

بينما يسترجع أحمد تلك اللحظات الطيبة، تذكّر موقفا آخر مشابها، حين عاد إليه أحد الطلاب بعد أن نسي هاتفه المحمول على شباك التذاكر. حينها دخل الطالب إلى غرفة أحمد مباشرة، وقبّل رأسه ممتنا: "الطالب رجع بعد شوية، لقى التليفون معايا، وكان سعيد جدا، لدرجة إنه مقدرش يمسك نفسه من الفرحة ودخل لي الغرفة وقعد يبوس فيا". أحمد ابتسم وهو يتذكر كيف أن تلك التفاصيل الصغيرة يمكن أن تحول يوما عاديا إلى لحظة ملهمة.

ومع ذلك، لا يخلو عمل أحمد من التحديات. إحدى المشكلات التي يواجهها بشكل متكرر هي "الفكة": "مرة جالي واحد عايز يشتري تذكرة بـ8 جنيهات وكان معاه 10، قلت له مفيش فكة، استنى شوية، لكن فجأة قال لي: (ليه دايما الفكة مش موجودة؟ هتفضلوا فشلة لحد إمتى؟)، ومش عايز أقولك بقى الناس اللي وراه سخنوا عليا حتى إللي معاه فكة مصدق يطلع غضبه في حاجه".

وبينما الأيام تتوالى، ومع تغير الأمور في المحطة، لاحظ أحمد تحولا في ملامح الركاب مع ارتفاع أسعار التذاكر. يتذكر أحمد تلك الأيام التي كانت فيها التذكرة بجنيه، وتتيح للراكب عبور جميع المحطات دون حسابات دقيقة. أما الآن، ومع تعدد ألوان التذاكر التي تفصل بين المحطات وأسعارها، فإن القلق بدا وكأنه ظل يرافقهم مع كل خطوة نحو الشباك. بعضهم يعبر عن استيائه بشكل مباشر، وآخرون يكتفون بتنهيدات ثقيلة قبل دفع النقود: "كل ما الأسعار بتزيد، بشوف ناس بتتغير، اللي كان بيشتري تذكرة ويمشي من غير ما يتكلم، دلوقتي بيبصلي زي ما أكون أنا السبب!!".

أحمد يدرك أن التغيير لم يقتصر على أسعار التذاكر، بل شمل كل تفاصيل الحياة، بما في ذلك جوانب كان يظن أنها ثابتة، كحياته الشخصية: "اللي بيحصل في المحطة بيقول إن الحياة كلها بقت سباق، كل واحد بيحاول يسبق الزمن بأي طريقة. الغلاء مبقاش يفرّق بين حد، من أول اللي بيشتري تذكرة المترو لحد اللي بيدفع فاتورة كبيرة، الكل في نفس المركب".

مع كل صباح جديد، يشعر أحمد بثقل الأيام التي تتكرر بلا توقف، في انتظار لحظة انطفاء أضواء المحطة لتنام في أحضان المدينة. وعندما يحين وقت إغلاق شباك التذاكر للمرة الأخيرة في هذا اليوم، يجمع أحمد أغراضه ببطء كما لو كان يجمع بقايا يوم طويل مليء بالتعب والأمل.

يمر أحمد بجانب القطارات المتوقفة، التي بات صمتها يعكس صمتا داخله. يتوقف عند الكشك القريب لشراء جريدته اليومية. هواء الليل يلامس وجهه بينما يتأمل المحطة الفارغة، التي كانت تعج نهارا بالحركة والحياة.

يعي أحمد أن المحطة تتجاوز كونها مكان عمل: "يمكن الناس ماتاخدش بالها من اللي ورا الشباك.. بيفكروا إن شغلي بسيط، لكن اللي بيشتغل هنا زي اللي بيكتب حكايات، كل يوم يضيف صفحة جديدة".

 



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك