في مثل اليوم الموافق 19 نوفمبر من عام 1977، هبطت الطائرة الرئاسية المصرية التي تحمل الرئيس الراحل أنور السادات، بمطار بن جوريون في تل أبيب، في مشهد غير مسبوق كونها أول زيارة لرئيس عربي لإسرائيل.
وجاءت الزيارة تأكيدا لما وصفه السادات باستعداده بأن يذهب لآخر العالم من أجل السلام، ومع إطلاق تلك الدعوة المبادرة أعقاب سنوات قليلة من انتصار أكتوبر، فقد أكد السادات في خطابه أمام أعضاء الكنيست ورجال الحكومة الإسرائيلية أنه خطا الخطوة وجاء إلى هذا المكان بـ"قَدَمَيْن ثابتَتَيْن".
ولاقت تلك الزيارة اعتراضات عديدة حينها من بعض القادة والزعماء بالمنطقة العربية، فضلا عن أصوات داخلية لم ترض عن تلك الخطوة، حيث استقال وقتها وزير الخارجية إسماعيل فهمي من منصبه، وتبعه محمد رياض الذي خلف فهمي في منصبه لساعات معدودة.
وعلى جانب آخر تواردت أفكار السادات مع أفكار وحسابات جيل آخر من الدبلوماسيين، ومنهم كان عمرو موسى، حيث ترسخ في نفسه اقتناع نتيجة للمتابعات الدقيقة لمجريات الأمور والاتصالات الكثيرة التي كان يجريها أو تجرى معه بأنه لا فائدة من كل الوساطات التي تتم بيننا وبين الإسرائيليين، سواء من اللجنة الرباعية التي كانت ترفع تقارير إلى السكرتير العام للأمم المتحدة، أو تلك التي يقوم بها الأمريكيون مع الرئيس السادات وغيرها، وأنه لاسبيل إلا بالتفاوض المباشر مع تل أبيب، وذلك وفقا لما ورد بالجزء الأول من مذكراته، "كتابيه.. سنوات النشأة والدبلوماسية" من تحرير وتوثيق الكاتب الصحفي خالد أبو بكر.
- آن للدبلوماسية أن تخوض معركتها
ويكمل موسى في مذكراته، "كان التفكير بهذه الطريقة عن لقاءات مباشرة مع الإسرائيليين في هذا الوقت المبكر بعد حرب شرسة دارت على جبهة قناة السويس ضربا من المجازفة غير المحمودة إذا تمت المجاهرة به، لكنني بوصفي دبلوماسيا محترفًا قرأت الواقع فوجدت أننا نسير في حلقة مفرغة، وما دمنا قد أدينا واجبنا بكفاءة نادرة على جبهات القتال فإنه آن للدبلوماسية أن تخوض معركتها وجها لوجه كما تحرك السلاح وجها لوجه".
وتابع: "بقول آخر كنت أشك في الوسيط وفي أنه يأخذ لنفسه جزءا كبيرا من كعكة التفاوض، يعطي بعضًا منها لإسرائيل إضافة إلى ما تحققه هي على مائدة المفاوضات".
لم تبق خواطر موسى حبيسة داخله، وواصل روايته بقوله، "أول من عبرت له عن قناعتي بضرورة التفاوض المباشر مع الإسرائيليين في هذا الوقت المبكر، هو السفير محمد أحمد إسماعيل، وهو السكرتير الثالث في ذلك الوقت نجل المشير أحمد إسماعيل، وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة المصرية، إبان حرب أكتوبر 1973، وكان إسماعيل عضوا في بعثة مصر في الأمم المتحدة سنة 1977، في يوم من أيام وجودنا في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة دعوته إلى أن يمشي معي في حديقة الأمم المتحدة لنسري عن أنفسنا ونتحدث في بعض الأمور، وكان يستعد للسفر إلى القاهرة لتوصيل رسالة يدا بيد من إسماعيل فهمي إلى السادات عن انطباعات الوزير ونتائج اتصالاته والإعداد للقاء كارتر".
وأردف، "سألني محمد أحمد إسماعيل عن رأيي في مسار التفاوض مع الإسرائيليين بعد أن سكتت المدافع على الجبهة، وقلت: يا محمد كل ما نقوم به بلا جدوى لا بد من اتصال مباشر الآن بيننا وبين إسرائيل، أرى أن نطرح هذا الأمر للمناقشة في وزارة الخارجية وعلى مستوى صناعة القرار في الدولة بكاملها، يجب أن نجيب عن أسئلة من عينة كيف يتم هذا الاتصال الحتمي؟ وعلى أي مستوى؟ ومتى؟ وما الذي سنطرحه؟ وما الذي نتوقعه من هذه المفاوضات المباشرة؟".
-كلام غير مضمون ورهان لن يجد مع القومسيونجية
ويجيب موسى، "الأمور يا محمد وصلت إلى نقطة الصفر، ما تسمعه من السكرتير العام للأمم المتحدة فالدهايم كلام فاض"، وما نسمعه من الأمريكان كلام غير واضح في منطلقاته وغير مضمون في نتائجه وما نسمعه من السوفييت لن يؤدي إلى شيء؛ ولذلك لا أرى فائدة لـ القومسيونجية ( تعني السماسرة)، إذا كانت الأمور على هذا النحو دعونا نتفاوض بشأن أراضينا مباشرة فائدةمع الإسرائيليين".
- توارد أفكار وزيارة لم تخطر على بال
ويقول موسى، "من المفارقات أن ما كان يدور في ذهني في هذه الفترة كان هو ما يدور في عقل الرئيس السادات، وطبعا لم تكن هناك أي لقاءات أو أحاديث جرت مع الرئيس في هذا الشأن، فموقعي في وزارة الخارجية لم يكن يتيح لي الالتقاء به، لكن يمكن اعتبار ذلك نوعا من توارد الخواطر بين رجلين كل بقدر طبعًا".
ويكمل موسى، "كان تفكيري منصبا على تواصل ما لأجهزة الدولة المصرية مع نظيرتها الإسرائيلية للبحث عن حلول، أو ربما على مستوى دبلوماسي مؤهل على أقصى تقدير، لكن الرئيس السادات أخرج أفكاره في شكل مبادرة للسلام، وزيارة إلى القدس، وهو الذي لم يخطر في بالي برغم توارد الأفكار بشأن الحوار المباشر".
وينقل الكتاب نصا لشهادة للسفير محمد إسماعيل بحديث مسجل حول ما دار بينه وبين عمرو موسى في الأمم المتحدة بشأن التفاوض المباشر مع الإسرائيليين على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1977.
وهي كما وردت على لسانه إذ يقول: "كانت تجري بيني وبين السيد عمرو موسى الكثير من الأحاديث على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1977؛ نظرًا لأننا عملنا معا في مكتب وزير الخارجية في بداية حياتي الدبلوماسية، وللحقيقة والتاريخ فإن عمرو موسى قد قال لي في يوم من هذه الأيام إنه يرى أن المرحلة الحالية تتطلب إقدامنا على إجراء اتصال مباشر بالجانب الإسرائيلي؛ لأن العقدة التي كانت لدينا بشأن الحديث معهم انتهت فقد خرجنا من حرب أكتوبر 1973 منتصرين ومرفوعي الرأس".
وشدد موسى على أن الوضع في تلك المرحلة بحاجة لعدم وجود وسيط فيما بيننا يجني مكاسب أو تكون له مصالح في عملية الوساطة، ويجب أن نتفاوض بشكل مباشر مع الإسرائيليين وننهي هذا الصراع على أساس أننا حاربنا وانتصرنا، وإذا كان الاتصال سيؤدي لتحرير باقي الأرض تنهي الأمر من دون الدخول في معركة جديدة، سيدفع شعبنا فواتيرها من قوته ومستقبل أبنائه خلال هذه الفترة.
و يقول السفير محمد إسماعيل في أثناء وجود موسى والوزير إسماعيل فهمي وبقية الوفد المصري في نيويورك طلب فهمي مقابلة الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، وكان الإعداد للمقابلة جاريا، وفي غضون ذلك طلب الوزير مني أن أحمل رسالة أسافر بها إلى القاهرة وأسلمها للرئيس السادات يدا بيد، وكان ذلك في نهاية أغسطس 1977، وقال لي الوزير: "سأقابل الرئيس كارتر في الرابع من سبتمبر، فإذا استطعت أن تأتي برد من الرئيس هيبقى كويس"، وبعد تسليمك الرسالة للرئيس تذهب إلى وزارة الخارجية وترسل لي برقية تقول: "من السكرتير الثالث محمد إسماعيل إلى الوزير إسماعيل فهمي.. أنا سلمت الرسالة، وتخطرني إذا كنت ستعود برد أم لا".
واستكمل، "وصلت طائرتي مطار القاهرة مساء كانت الساعة تقترب من منتصف الليل، وبرغم ذلك توجهت مباشرة إلى منزل الرئيس السادات في الجيزة، قابلني مدير الأمن في الرئاسة، قال لي: الرئيس في غرفة نومه ومريض عنده نزلة برد، قلت: لا استطيع أن أغادر من دون أن أقابله، معي رسالة إلى الرئيس من وزير الخارجية إسماعيل فهمي، ولابد أن أسلمها له يدا بيد".
قال: هذا مستحيل، قلت له: أرجوك بلغ الرئيس أن فلان الفلاني موجود، وقادم إليه برسالة من وزير الخارجية وإذا قال لك: ليس الآن فسأغادر، بمجرد أن علم الرئيس أنني أحمل له رسالة من فهمي استدعاني ودخلت لمقابلته في غرفة نومه، وبرغم حرارة الجو لم يكن الرئيس مشغلاً جهاز التكييف بالحجرة، وكان يبدو عليه المرض ويرتدي "روبا"، ويجلس على كرسي يتحرك به للأمام والخلف، بدأ الرئيس معي بالسؤال عن والدتي وإخوتي ذلك أنه يعرفنا لوجود صداقة كبيرة بينه وبين أبي المشير أحمد إسماعيل منذ المرحلة الثانوية، ثم سلمته الرسالة ففتحها بـ "مطواة صغيرة"، ما فهمته منه عن محتوى الرسالة عدة أشياء:
-أولا أن الرئيس كارتر يطالبه بأخذ خطوة يظهر من خلالها جديته في عملية السلام وبالتالي يعطي الإسرائيليين ثقة فتمضي المفاوضات.
ووجدت السادات يتحدث لا أعرف إذا كان يخاطبني أم يتحدث إلى نفسه قائلا: "القصة عايزة خبطة زي فتح قناة السويس".