القصور التاريخية في مصر ليست مجرد أمكنة وجدران وشوارع، إنما هي تاريخ لا يزال حيا، سجل يُخلد أسماء وشخوصا وأحداثا، رمز لنمط عمارة ساد، وظروف عصر خال، وثقافة مجتمع تقلبت عليها السنوات، لكنها ظلت تحمل شيئا من توقيعه، لا يزال محفورا في ومضة هنا أو أخرى هناك.
تلك القصور ما هي إلا تاريخ لم تطوه كتب أو مجلدات، فلا يزال حيا نابضا يثبت أنه أقوى من كل محاولات العبث التي بدأت بعشوائية المصادرات ومحو أسماء أصحاب القصور من فوق قصورهم، ولافتات الشوارع التي حملت يوما أسماءهم تخليدا لدور قدموه للوطن أو خدمة جليلة قاموا بها لنهضة مجتمعهم.
في سلسلة "قصور منسية" تستعرض "الشروق" خلال شهر رمضان الكريم، قصصا لقصور مصر المنسية، استنادا إلى كتاب "قصور مصر" الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، للباحثة سهير عبدالحميد، والذي يتناول قصص وحكايات وراء أشهر القصور المصرية.
- قصر الأمير وحيد سليم.. صاحبه عاش وحيًدا ومات وحيًدا
في بداية القرن الـ20 كانت الأنظار متجهة إلى الشمال الشرقي لمدينة القاهرة، كمصر الجديدة والمطرية لبناء الفيلات، وفي المطرية أقام الأمير يوسف كمال، أغنى أمراء الأسرة الَعلوية، قصره الفخم الذي تحتله الآن وزارة الزراعة بمركزها لبحوث الصحراء.
وفي الجهة الغربية منه، أقام الأمير قصًرا آخر استأجرته قريبته التي ينتهي نسبها إلى جدهما المشترك إبراهيم باشا، الأميرة شويكار الزوجة الأولى للملك فؤاد، ولقرابة نصف قرن عاش بهذا القصر ابنها الأمير وحيد الدين سليم من زوجها الضابط التركي، وحيًدا لم يتزوج ولم يكن يفارق قصره إلا للتردد على المزادات أو إشباع شغفه بالرحلات، وجمال المقتنيات في قصره خير دليل على هذا الشغف.
- الأمير وحيد سليم
ولد الأمير محمد وحيد الدين سليم في عام 1919، وتوفي في 1995، والده هو سليم بك خليل أحد ضباط الجيش التركي، والدته هي الأميرة شويكار بنت إبراهيم بن الأمير أحمد رفعت بن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا الكبير والزوجة السابقة للملك فؤاد.
تلقى الأمير محمد وحيد الدين سليم تعليمه بباريس، كالكثير من أمراء الأسرة وعاد إلى مصر عام 1939، فكانت ثقافته فرنسية وكانت كل قراءاته بها، خصوًصا أنه لم يكن يجيد العربية، وكان كثير السفر والرحلات ويهوى التردد على المزادات لشغفه باقتناء التحف، كما أنه كان صديقًا لعدد كبير من فرق التمثيل الفرنسية وينتهز فرصة قدوم أي منها إلى مسرح الأوبرا بمصر ليدعوها إلى قصره.
كان متيًما بالفن ومهتما بإقامة الحفلات في شتى المناسبات، وبقدر ما كان كثير القراءة كان قليل الأصدقاء، وبقدر ما قل عدد أصدقائه زاد عدد حيواناته الخاصة التي كان يعشقها، خصوًصا الكلاب من نوع "الوولف" التي كان يطعمها بنفسه، وقد خصص لها حمام سباحة، كما أنشأ لكل كلب مقبرة خاصة مزينة بالورد والأشجار.
وبسبب هذه الكلاب تعرض لموقف محرج ذات مرة أثناء سفره إلى فرنسا، فقد كان بصحبته كلب من نوع "شيان لو" اسمه "مبروك" وقبل أن ينزل من الباخرة قفز الكلب وعض أحد الفرنسيين الذي أصـر على اصطحاب الأمير إلى مركز البوليس، حيث تم فض المشكلة بشراء الأمير بدلة جديدة للرجل الفرنسي.
- رومانسية جعلته وحيدا
ويبدو أن الأمير كان من ذلك النوع الحالم الرومانسي، وقد أثر فيه رفض الملك طلبه للزواج من الأميرة فايزة التي أحبها الأمير وحيد، ويشاع أنه تقدم أيًضا لإحدى الأميرات الجميلات، إلا أنها فضلت أن يظلا مجرد صديقين، فعاش الأمير ومات وهو أعزب.
والعجيب أنه احتفظ في قصره مع ذلك بحجرة العروس التي تكلفت الكثير وظلت مغلقة.
- حياة هادئة كهدوء القصر
بعد قرارات التأميم عاش الأمير حياة هادئة كهدوء القصر المهجور، وقد صودرت ممتلكاته ولم يصرف له من الدولة سوى معاش ضئيل لم يكِف متطلبات حياته، وكان يساعده الأقارب خصوًصا زوج أمه إلهامي باشا الذي استقر آنذاك في باريس، وكان البرنس وحيد يحرص على زيارته دوًما.
وظل الأمير يعيش في قصره منطويًا على نفسه حتى وجده سكرتيره ووكيل أعماله ذات يوم جالًسا على مقعده ببهو القصر وقد خيم عليه الموت، وكان ذلك عام 1995، وعمره كان 75 سنة يومها، لم يشارك في جنازته سوى خدمه الذين كان كريًما معهم وأقربائه القليلين، حيث دفن في مقبرة والدته.
ولم يحضر جنازته 5 من الخدم هم الذين أهالوا التراب على رفات الأمير، وودعوه بحزن ودموع؛ فقد عرفوه عن قرب ودوًدا شديد الطيبة كريًما مهذبًا، وكان يأتي بانتظام لزيارة قبر والدته، وقبل أن يقرأ لها الفاتحة كان يقرؤها لمربيته شايستا هانم عبدالله التي توفيت في 3 مارس 1953.
- وحيدا بالقصر
عاش الأمير وحيد الدين في قصر والدته شويكار مع زوجها إلهامي باشا في شارع قصر العيني لفترة، عقب عودته من باريس قبل أن ينتقل لقصر المطرية الذي اشتراه من الأمير يوسف كمال.
وكانت به غرفة الأميرة شويكار التي أهداها لها الملك فؤاد ليلة زفافها، وفي الغرفة كان للسرير 4 أعمدة من الذهب الخالص.
- قصر الأمير
يقوم القصر على مساحة تقدر بحوالي 4 أفدنة ونصف فدان، حديقته تحفة فنية رائعة بها مجموعة نادرة من أشجار النخيل، وكانت تحوي في جزء منها أقفاًصا للطيور والحيوانات، تتوسط الحديقة نافورة رخامية، أمامها بسطة بها 4 أعمدة رومانية كانت مخصصة للموسيقى أثناء إقامة الحفلات، وعلى جانبيها كشكان مخصصان لجلوس الأمير للاسترخاء، والإضاءة الداخلية مساء تلقي بظلال ناعمة على الزخرفة التركية بهما.
يتكون القصر من دور أرضي و3 أدوار ودور مسروق، الدور الأول يرتفع 22 درجة، ويوجد على الدرج تمثال لسيدة عارية جالسة على أسد، ثم باب القصر وعليه التاج الملكي به حرفان M-W وهما أول حرفين من اسم الأمير، والحائط المواجه لباب القصر به تمثال لرجل من الجبس يجلس على حربة وشعره ملفوف على الطريقة الرومانية.
أما البهو فمن الرخام الأسود والأبيض والوردي المستورد من إيطاليا، به كرانيش آية في الجمال تحمل زخارف نباتية مذهبه وبها بلكونة مستطيلة عليها التاج الملكي، وفي البهو 4 غرف أولاها الصالون الأول والصالون الثاني، وفي الغرفة الثالثة بالبهو مكتبة مجلدة بخشب الأرو وهي بطول الحائط، أما غرفة السفرة فيتوسطها نجفتان كبيرتان وبها بلكونة تطل على أقفاص الطيور والحيوانات بالحديقة التي كانت موجودة يوًما.
أما الدور الثاني فبه بهو مستطيل تطل عليه 4 حجرات، والدور الثالث صالة مربعة بها 2 شباك تطل على التراس، أما الدور المسروق فهو الدور الثاني الخاص بالنوم، وبه مخزن أسانسير وحجرة خاصة بها حمام مصنوع من الفسيفساء الذهبية بها بلكونة كبيرة تطل على الحديقة.
وأجمل ما في هذا القصر هو كمية التحف الثمينة والمنقولات والأثاث على الطرز المختلفـة والنسجـيات والسجاد.