الإسقاط فى الأدب والرمزية الملقاة على شكل الفن ترتبط كثيرا بالفلسفة الكتابية، أو ربما بشكل دقيق بفلسفة الكاتب، فالكاتب يأخذ موضوعا أو حدثا ما ليسقطه على شىء آخر حدث ما يظهر أنه ليس هذا الذى يدور فى ذهن الكاتب، بل هو موضوع منفصل بتناول آخر بتعاطى مع أحداث ومتغيرات أخرى، وهذا أيضا شبيه بحال الرمزية فى الأدب، فالرمز يظهر ابتعاده عن المقصود كأنه يكتب من واقعية أخرى، ولكنه يقصد ما يبتعد عنه فقط فى ثوب المتخفى عن الأنظار والأفكار.
إن فكرة الإسقاط نفسها بأن يأخذ الكاتب أحداث من تاريخ ما أو وقائع ما تشغله ولا يستطيع الهروب منها ليسقطها على واقعنا المعاش أو بمعنى أدق واقعه المعاش، والرمزية التى تأخذ شكلا لشىء يؤرق ذهن ووجدان الكاتب ليضعها فى شكل رمز يبعد عن مقصده على الأقل للوهلة الأولى.
ربما أطلنا الحديث فى فكرة عرض الإسقاط والرمزية، وذلك لأننا بصدد الحديث عن رواية «معزوفة اليوم السابع» للكاتب والروائى الكبير الأردنى جلال برجس، والصادرة عن دار الشروق، وتلك النقطتان بالفحص والتحليل سواء الإسقاط أو الرمزية يلعبان دورا محوريا فى أحداث الرواية، وفى بنائها، وفى سردها، وفى لغتها، فى كل شىء تقريبا، لتكون بذلك الثيمة المسيطرة على أجواء الرواية.
هنا يؤسس جلال برجس لعالمه الروائى تأسيسا خياليا فى كل شىء أو ربما هكذا نظن، عالم ليس كعالمنا، أو هكذا نظن، واقع ليس كواقعنا أو هكذا نظن، هى كلها ظنون تنبع من فعل الظن لو سنقرأ الرواية من منطلق الحكاية، ولكن الأمر أعقد من هذا لو أوغرنا فى أعماق ما نقرأ، إن جلال برجس يؤسس لدنيا جديدة، إنه يبدأ شيء شبيها بالخليقة الأولى، أحداث ترمز لبداية الخليقة إسقاط لبدء الخلق فى دنيانا تلك، إن برجس يؤسس لسردية جديدة لبدء الحياة، أو ربما يؤرخ لبداية التواجد البشرى فى الحياة، ولكن بشكل سردى خيالى.
إن الكاتب هنا يؤسس لأسطورة مثل أساطير بداية الخليقة الأولى، ولما مثل بل هو بالفعل تأسيس لأسطورة جديدة لخليقة مغايرة، هنا نرى ذلك الشخص المجهول الذى ضاقت به حياته فى قريته الأولى أو قريته الأم زادت فيها البغضاء والكره وكل الأشياء السيئة الممكنة لقد فسدت القرية وفسد ناسها، وكان صاحبنا الأسطورى نقى فقرر الابتعاد عن كل هذا الشر والفساد، وغادر قريته، غادر إلى أرض بعيدة لا يقطنها أحد، ولحقت به الفتاة التى شعرت بالنبذ من عالمها، قطنا الأرض الجديدة التى ستصبح قرية جديدة أو بمعنى أدق عالما جديدا، دنيا غير ما كان سيؤسسان معا تلك الخليقة الجديدة التى سيعرف فيها بطلنا الأول لاحقا، بالجد الأول، وسيؤسس القرية الجديدة التى ستعرف باسم قرية الجد الأول.
القرية التى سيتكاثر فيها نسل الجد الأول حتى يفيض مؤسس لحياة موازية للحياة نفسها ستكبر القرية وتصبح أحياء كثيرة، وتتسع رقعتها، وسيصبح ما هرب منه الجد الأول واقعا جديدا له، فلقد ملأ القرية نفس البغض والكره، وبدأ قاطنوها يتناسون دستور الجد الأول ضلوا الطريق، وربما هنا نلاحظ أن هذا الحدث من الممكن أن يفسر برمزيات وإسقاطات كثيرة، ربما تضاهى بداية الخليقة الأولى، ومحاولة محاكاة ذلك الضلال الذى يصيب الناس مع مرور الوقت، حتى فى وجود الأنبياء، لكن هنا الأنبياء لن يكملوا معنا الحكاية، فالجد الأول يموت، وتاركا مخطوطه الذى فيه خلاص نسله من الشرور، والتغلب عليه، وهذا إن تمسكوا بما قاله لهم.
تدخل بنا الرواية بعد ذلك إلى أرض قرية الجد الأول بعدما اتسعت وأصبحت تمتلك أحياء كثيرة كلها بالأرقام، وأصبحت تلك الأحياء تحاكى التقسيم الطبقى فى حياتنا الحالية، وتحاكى حروبنا ونزاعاتنا ومشاكلنا التى يزخر بها واقعنا المعاش، بل إننا نرى تلك المحاكاة حتى فى شكل شبيه بالأمم المتحدة فى زماننا المعاصر، وكأنها رسالة من الكاتب بأن أى محاولة لخلق عالم جديد ستكون نتائجه مثل عالمنا الذى نعيش فيه فالإنسان واحد حتى لو اختلفت الظروف، والأماكن، والأزمنة.
نرى بعد ذلك بطلتنا توليب التى فقدت عائلتها فى أحد النزاعات الدموية التى أودت بدماء الكثيرين، مرة أخرى الإسقاط متواجد على واقعنا الملىء بالنزاعات، وبالدماء التى تراق باسم تلك النزاعات التى كما رأينا فى الرواية تبدأ فى غاية البساطة، وتنتهى فى الغرق فى الكوارث، تقابل بخاتو عامل النظافة العجيب الذى يرقص على الموسيقى فى الشوارع، الغجرى الذى من خلاله تعلم نبذ قرية الجد الأول لهم نعم عادت التفرقة العنصرية مثلما كانت هى بذاتها، بخاتو هو ذلك الفتى الذى يعثر على المخطوطة، وهو نفسه الذى يستمع له فى حلمه، ليكون الخلاص فى يدى الغجرى المنبوذ.
نرى أيضا فى الرواية ذلك الوباء العجيب الذى يصيب الناس، ويهدد هويتهم وذاتهم ويجعلهم يشعرون بالضياع وكأنهم ماتوا وأشباحهم تطاردهم، إنه وباء الحقيقة بالدرجة الأولى، لأننا أمام رواية تبحث عن الحقيقة، ومحاولة محاكاتها بطريقة ما.