طرح فكرى رصين يبتعد عن الجدل اعتمادًا على أسلوب جذَّاب ولغة سلسة
«أفكار نوعية، رؤية جريئة، إيقاع جذاب»، هكذا يمكن وصف الكتاب الصادر عن دار الشروق تحت عنوان «الاجتهاد والتجديد فى فهم القرآن»، والذى حمل توقيع الكاتب خالد محمود؛ حيث لا ينتمى هذا الكتاب إلى الطروحات النمطية التى تحاول التوفيق بين تيارين متعارضين فى قضية التجديد الدينى، وإنما يأتى كمحاولة مستقلة تسعى إلى تقديم رؤية متماسكة تجمع بين الالتزام بجوهر الدين والانفتاح على ضرورات الواقع.
يدرك القارئ سريعا أن الكاتب لا يضع نفسه فى موضع التبرير، ولا يسعى إلى مغازلة طرف على حساب آخر، بل يقدم طرحًا فكريًا يتعامل مع التجديد كعملية ضرورية مستمرة، وليس كحدث عابر يخضع للأهواء أو للضغوط الاجتماعية؛ حيث يتناول خالد محمود فى هذا العمل مسألة التجديد الدينى من زاوية تختلف عن تلك التى سادت فى العقود الأخيرة.
يرى أن هناك تيارين رئيسيين يتحكمان فى المشهد: الأول، يتمسك بالماضى ويُغلِّب التقليد على الاجتهاد، فلا يفرّق بين الأصول الثابتة والمسائل القابلة للنقاش، وهو التيار الذى يقف عند حدود النصوص دون محاولة فهم السياقات الاجتماعية والتاريخية التى جاءت فيها. والثانى، يتعامل مع الدين من منظور حداثى منفصل عن جذوره، فيسقط كل ما لا يتماشى مع رؤيته للعصر دون الاعتراف بأن بعض الثوابت تمتلك منطقها الداخلى الذى لا يمكن القفز عليه. وبين هذين التيارين، يجد الكتاب لنفسه مسارًا مستقلًا يوازن بين الحفاظ على الأصول والانفتاح على الاجتهاد، مقدِّمًا قراءة عقلانية للدين تحترم النصوص، لكنها لا تجمّدها فى قوالب زمنية تجاوزها العصر.
من خلال صفحات الكتاب، يأخذ الكاتب القارئ فى رحلة فكرية تستعرض علاقة الإنسان بالدين من زوايا مختلفة؛ حيث لا يقتصر الطرح على الجانب الفقهى أو التشريعى، وإنما يتناول أيضًا البعد النفسى والاجتماعى للتدين. فى هذا الإطار، يتحدث عن كيفية تفاعل النفس البشرية مع المعتقدات، وكيف تتشكل القناعات الدينية عبر الزمن، وما التأثيرات التى تلعبها الثقافة والمجتمع فى صياغة فهم الإنسان لدينه. هذه المقاربة تجعل الكتاب غنيًا بمحتوى يناسب الباحثين عن قراءة عميقة لقضية التجديد، دون الوقوع فى الخطاب المكرّر الذى يدور حول ذاته دون أن يقدّم إجابات حقيقية.
داخل فصول الكتاب، يناقش الكاتب فكرة أن القرآن الكريم جاء لمخاطبة البشر فى زمانه بأدواتهم ومفاهيمهم، وأنه من الطبيعى أن يستمر فهمه وتجديد قراءته مع تغير العصور. لكنه يفرّق بوضوح بين ما يمكن تجديده وما لا يجوز المساس به، فيضع إطارًا معرفيًا يمكّن القارئ من التمييز بين الأحكام التى ترتبط بالسياق التاريخى، وتلك التى تمثل ثوابت راسخة. هذه الرؤية تُقدَّم من خلال استعراض أمثلة شرعية تبرز كيف تعامل المسلمين الأوائل مع مستجدات عصرهم دون أن يقعوا فى أسر الجمود، وهو ما يعزز الفكرة الجوهرية للكتاب بأن التجديد ضرورة وليس خيارًا، لكنه يحتاج إلى أدوات منهجية واضحة تحميه من الانحراف أو التمييع.
يطرح الكتاب أيضًا مسألة العلاقة بين العقل والنقل فى فهم الدين؛ حيث يدافع الكاتب عن دور العقل فى الاجتهاد والتفسير، لكنه فى الوقت ذاته يؤكد أن العقل لا يمكن أن يكون بديلاً عن النصوص، بل هو أداة لفهمها فى ضوء معطيات الواقع. هذا الطرح يهدف إلى تحرير الخطاب الدينى من ثنائية «التقليد المطلق» و«القطيعة الكاملة»، مقترحًا نهجًا وسطًا يجعل من العقل شريكًا فى عملية الفهم دون أن يحوّله إلى سلطة مطلقة. من خلال هذا التوازن، يسعى الكتاب إلى تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة التى سيطرت على المشهد الدينى لعقود، والتى إما بالغت فى إقصاء العقل أو منحته سلطة غير محدودة على النصوص.
على امتداد فصوله، يستعرض الكتاب عددًا من القضايا الفكرية والفقهية التى تشغل بال الكثيرين، محاولًا تقديم رؤية واضحة تتسم بالاتساق الداخلى. يتناول، على سبيل المثال، موضوع الاجتهاد فى الفقه الإسلامى، ويطرح تساؤلات حول مدى إمكانية تطوير بعض الأحكام بما يتلاءم مع تطور المجتمعات، دون أن يؤدى ذلك إلى تفكيك البنية الأساسية للتشريع. كما يناقش بعض المسائل الجدلية مثل علاقة الدين بالعلم، وحدود التفسير العقلى للنصوص، والتحديات التى تواجه الفكر الإسلامى فى العصر الحديث. من خلال هذه الموضوعات، لا يكتفى الكتاب بعرض الأفكار فى شكلها المجرد، بل يحرص على تقديم أمثلة عملية توضح كيفية تطبيق هذه المفاهيم على أرض الواقع.
ما يميّز هذا العمل عن غيره من الكتب التى تناولت قضية التجديد هو أسلوب الكاتب فى طرح الأفكار، حيث يعتمد على أسلوب منطقى متدرّج، يبدأ بعرض الإشكاليات القائمة، ثم يناقشها فى ضوء النصوص والتاريخ، قبل أن يقدّم رؤيته الخاصة المدعّمة بالحجج والأدلة. هذه المنهجية تجعل الكتاب بعيدًا عن الطرح الخطابى أو الجدلى، إذ يركّز على تقديم رؤية تحليلية متماسكة تتيح للقارئ تكوين رأيه الخاص بناءً على معطيات واضحة. كما أن اللغة المستخدمة فى الكتاب تتسم بالسلاسة والوضوح، ما يجعله مناسبًا لشريحة واسعة من القراء، سواء كانوا من المتخصصين فى الدراسات الإسلامية أو من المهتمين بالقضايا الفكرية بشكل عام.
يقدم كتاب «الاجتهاد والتجديد فى فهم القرآن» قراءة معمقة لقضية التجديد الدينى، تتجاوز الطروحات السطحية التى تكرّرت فى العقود الأخيرة، وتطرح بديلاً فكريًا متماسكًا يحترم التراث لكنه لا يجمّده، ويتفاعل مع الواقع دون أن يفقد صلته بالجذور. هذا الكتاب ليس مجرد محاولة جديدة للخوض فى قضية شائكة، بل هو نموذج لمقاربة فكرية تجمع بين الالتزام والانفتاح، وبين احترام النصوص وإعمال العقل، فى رؤية تجعل من التجديد ضرورة حيوية لمواكبة تطورات العصر، دون أن يكون ذلك على حساب هوية الدين وثوابته.