«دار خولة» لبثينة العيسى .. محاولة استعادة الهوية التى غيبتها الحروب - بوابة الشروق
الأربعاء 29 يناير 2025 1:55 ص القاهرة

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

«دار خولة» لبثينة العيسى .. محاولة استعادة الهوية التى غيبتها الحروب

إيمان صبرى:
نشر في: الأحد 26 يناير 2025 - 10:04 م | آخر تحديث: الإثنين 27 يناير 2025 - 6:08 م

هل يمكن أن يحمل الانتصار بين طياته هزيمة؟

بين أحداث رواية دار خولة للكاتبة بثينة العيسى الصادرة عن منشورات تكوين، تكمن الإجابة فمن عايش ما شاهدته خولة بطلة الأحداث وجيلها بالكامل من أبناء الشعب العربي الذي شاهد الحرب على شاشات التلفاز، الحرب التي ضربت بالهوية العربية عرض الحائط  وقتلت الروح آلاف المرات، قطعا يعرف إجابة هذا السؤال التي تأتي بالإيجاب، ولكن كيف انطوى انتصار الكويت على هزيمة وما أثرها عليهم؟

مهلا عزيزي القاريء فالهزيمة هنا يقصد بها هزيمة النفوس لا الحرب بعتادها وتراجع الجيوش وخروجها وصمت القنابل، فبالرغم من الانتصار ظلت آثار طلقات الرصاص جرح في النفس لا يندمل فمن منا لا تسبقه دموعه حين يرى مشاهد الحرب في أحد الأفلام أو يقرأ عنها في رواية، فالاعتداء كان من داخلك، منك وفيك، من ثقافة وحضارة عربية كانت حدودهما المشتركة التي أدعت القيادات النزاع عليها هي دليل تلاحمهم الحضاري وعبثية هذه النزاعات، فكيف يتحول ذلك بين ليلة وضحاها إلى شيء لا تذكر منه سوى رائحة البارود والزي العسكري الذي قذف الرعب في القلوب بدلا من أن يكون أمانك وقت الحاجة إليه.

كانت خولة صورة للتمزق الذي خلفته الحرب في جيلها، تمزق تجلى في لحظة الإنكار التي أصابتها على أثر الصدمة حين نزلت إلى الشوارع توزع الحلوى على القوات الأمريكية وكأنها تطالبهم بالبقاء كطوق نجاتها الوحيد وفي قرارة نفسها تؤمن بالعكس تماما لكن بعد الحرب التي لم يتخيلها أحد في أسوء كوابيسه لم يعد هناك مكان للمشاعر، وحده الواقع وإن كان خطأ تاريخي هو من يتحكم فينا وفي حياة جيل بأكمله تمثل  في إصرارها على أن يتلقى أبنائها تعليم أمريكي كل ما يستند عليه مستمد من ثقافة أخرى لا تعرفها لكن لا يسعها إلا أن تعترف بها.

لم تدرك خولة حينها أن ما تفعله  سوف يتحول إلى أزمة أخرى تشهد أثرها في منزلها، منها ما حدث بعد انتهاء الحرب بأشهر ومنها ما حدث بعد الحرب بسنوات طويلة فكان الأقسى على الإطلاق لأنها تعيشه يوميا بين جدران منزلها وتحاول أن تغيره فلا تجدي محاولاتها.

فبعد الحرب رحل زوج خولة الرجل الذي رغم قسوة الحرب ظل يقدس العادات والتقاليد، كان رمز لجيل حفظ الهوية التي أصبحت في مهب الرياح فيما بعد وذلك أمر منطقي، فلم تكن هذه الهوية بالرغم من قوتها وجذورها الضاربة في أعماق التاريخ كافية لمنع شبح الحرب التي شوهت الشعبيين على حد سواء ولكن بطرق مختلفة، فمات زوج خولة مئات المرات قبل رحيله الأخير وهو متمسك وثقافته في حين ينكرها المجتمع من حوله ويحاول بشتى الطرق أن ينساها وكانت زوجته أولهم.

يرحل الزوج ويترك خولة في منزل هجره الأبناء إلا من زيارات متقطعة تستجديها منهم بين فترة وأخرى، ومنهم من يلبي النداء ومن يتأخر وآخر لا يأتي أبدا، وبين هذا الانتظار المرير تتمسك خولة بصورة في قلبها لا تكتمل أبدا، فلا يمكنها أن تشاهد عائلتها ملتفة حول مائدة طعام واحدة تعدها يوميا لهم وللأحفاد، للحد الذي يجعلها تلجأ إلى الخيال فتعيش هذه الحالة بصور مختلفة ولا يشغلها شاغل سواها بالرغم من أن ما يبدو على ظاهرها العكس تماما من ذلك، فيتحول البيت إلى خواء بالرغم من الحياة التي تحيط به ومازالت خولة تحاول، محاولات ترمز لها بحوض السمك الذي تحتفظ به في منزلها ولا حياة فيه.

 ومن المنزل إلى شاشات الهواتف والتلفاز والتقنيات التكنولوجية التي وسعت الهوة ما بين الهوية الحقيقية والتاريخ الذي نحمله على أكتافنا تمثله العادات والتقاليد وبين ما نعيشه الآن، هذه الشاشات كانت بطل من أبطال الأحداث فهذه أدوات العصر سلاح ذو حدين، تستخدمه هي للتوعية ومحاولة الرجوع إلى إرث عائلاتها الثقافي والحضاري، فتأتي خولة هنا وكأنها إسقاط روائي على محاولات الكتاب والمثقفين الكويتيين في التوثيق للتراث وصراعات التاريخ والوجود بالكتابة التاريخية المباشرة أو الروائية، في حين يستخدمه البعض للهروب من الواقع وتشويه الماضي، لكنهم في حقيقتهم صورة من تخبطات خولة، نتاج طبيعي لشتات هذا الجيل متمثل في ثلاثة أبناء.

ناصر ضحية يحاول أن يخلق هوية من الثقافة التي فرضت عليه، لكنه في نفس الوقت رمز لهزيمة خولة، لعدم قدرتها على مواجهة الخطأ الذي وقعت فيه، وكثيرة هي الأخطاء التي نأبى الاعتراف بها ومراجعتها في أوطاننا العربية المنكوبة حتى تتحول إلى كيان منفصل يعادينا نحن من صنعناه، لكنه استسلم أيضا هو الآخر فتمثلت هزيمته في أنه ضحية والدته ولم يجد طريق للتعبير عن طاقته سوى مزيد من الغضب، ولم يبحث بنفسه عن الحقيقة، حقيقة ما حدث لجيل والديه فأجبرها على التنصل من هويتهم ومحاولة الانتماء لثقافات أخرى، ناصر لنفسه بالاستسلام والهروب.

يوسف رمز لهولاء الذين يبدون وكأنهم يواكبون تغيرات الحياة وما تفرضه عليهم الظروف وهم في حقيقة الأمر يطوعون كل شيء لخدمتهم، لكن ماذا يمكنه أن يفعل وقد وجد نفسه في صحبة أم مهزومة وأخ صغير وقدوة يمثلها الأب غابت بعد أن خذله المجتمع، فلم يكن هناك مخرج أمام يوسف سوى أن يعيش الحياة مهما كانت الظروف.

حمد هو صورة لجيل جديد يمثل محاولات الوعي في البحث عن الجذور بين العادات والتقاليد، فبالرغم من انشغاله بقضايا عصره لكنه يحاول أن يوازن بين ثقافتين، بين ما كان وما هو الآن، لكنه في حاجة إلى أن يمعن النظر أكثر فالعزلة عن ما حولك والمواقف الموضوعية لن تفيد بل قد تميتك بنفس أمراض مجتمعك.

بالوقوف على حياة أبناء خولة وتفاصيل علاقتها بهم، وبعد جولة في منزلها الذي يخلو من أي ألفة سوى اللكنة الكويتية المحببة التي ضفرت الكاتبة بها الحوار والسرد، وبين الماضي الذي يمثل خلفية لأحداث الحرب التي لم تقف الكاتبة أمامها طويلا بل اهتمت بأثرها، وبين الحاضر ومخاوف المستقبل سوف تنتابك مشاعر متناقضة ما بين الغضب والأسف والتعاطف والندم.

 لكن سرعان ما تدرك أن هذه المشاعر ليست مكتسبة من أبطال الرواية وحدهم بل نابعة من داخلك أنت، فقد كنت أنت أو أحد أفراد عائلتك شاهد على صدمة جيل كامل، لذلك تستطيع أن تلتمس العذر لكل منهم  فخولة كانت ضحية حرب من تعساء الحظ الذين ظلوا أحياء، أما أبنائها فيمثلون أجيال كاملة هي نتاج مجتمعاتها وتلك حقيقة لا جدال فيها، لكن الخلاص من الألم والخذلان المتوارث والشتات الذي نعانيه هو مسؤوليتنا وحدنا وإلا أصبح المستقبل كحوض السمك الفارغ الذي تأتي له خولة كل يوم بسمكة جديدة تموت بمجرد أن توضع بداخله وفي كل يوم تكرر المحاولة ولم تنتبه أنها في حاجة إلى أن تغير مياه الحوض حيث تعيش السمكة وتتنفس!


صور متعلقة


قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك