ما بين السجن والوفاة تعددت مصائر رؤساء مصر خلال نصف قرن، إلا أن الرئيس المؤقت المستشار عدلى منصور، الذى يغادر موقعه خلال أيام، يمثل استثناء للفترة الماضية، إذ يخرج مُكرما بينما تتنازعه الوجهات المختلفة، ما بين العودة لمنصبه السابق، رئيسا للمحكمة الدستورية العليا، أو الدخول إلى معترك البرلمان المقبل كرئيس له.
الكلام المحدود، واللغة المنضبطة نحويا، والابتسامة اللافتة شكلت جميعها ملامح وصورة رئيس بدا اسمه غامضا بالنسبة لكثير من المصريين قبل ساعات من تولى منصبه.
يجمع كثيرون ممن التقوا أو حاوروا منصور، على أنه مستمع جيد دمث الخُلق، وعلى الرغم من اختلاف البعض مع قوانين اصدرها أثارت الجدل مثل قانون التظاهر، إلا أن ذلك لم يؤثر فى حجم التقدير الذى يحظى به.
الرجل الذى يبلغ من العمر 68 عاما، تولى منصبه فى ظرف بالغ الحساسية قادما من هيئة قضائية ذات تقاليد رصينة، كانت تصنفها وتضعها جماعة الإخوان ضمن المؤسسات المعادية لها والمشاركة فى مؤامرة ضدها.
وجد الرجل نفسه رئيسا للبلاد فى اعقاب ثورة اطاحت بحكم الإخوان، وقبل ساعات من اعلان اسمه كرئيس مؤقت كانت صورته غير المعروفة هدفا لكثير من وسائل الإعلام، إذ إنه تولى المنصب رئيسا للمحكمة الدستورية ورقيا فى 30 يونيو 2013، ولم تتح لمنصور الفرصة أن يقسم اليمين أمام اعضاء المحكمة الدستورية خلفا للمستشار ماهر البحيرى، بل إنه اقسم يمينين فى أقل من ساعة كان أولهما قضائيا كرئيس للدستورية، وثانيهما سياسى كرئيس مؤقت لمصر.
فى كلمته التى اعقبت اداءه لقسم تولى الرئاسة المؤقتة، بدا منصور مدركا ولامسا لمشاعر شبابية ترتبط بفكرة ميادين الثورة، وخاطبهم بالقول: «أرجو ألا يرحل الثوار عن الميدان، يظل المصريون هناك يتناقلون الراية جيلا بعد جيل، يسطرون لهذه الثورة آيات الخلود والرفعة، ولا أقصد بالميدان حدود المكان ولا الوجود الجسدى فيه، وإنما أن تتجدد روح الميدان فى نفوس المصريين جميعا متوثبة يقظة تحمى الثورة وتحرسها فى مستقبل الأيام والسنين».
وكأنما يلقى برسالة للمستقبل، دعا منصور خلال خطابه الأول إلى «التوقف عن انتاجنا فى صناعة الطغاة فلا نعود نعبد من دون الله ــ جل جلاله ــ صنما ولا وثنا ولا رئيسا».
فى ملعب السياسة، وما ترتب على إصدار الدستور بتعديلات الخمسين، وإقراره فى استفتاء يناير الماضى، اضطر منصور إلى ركل الكرة التى ألقيت فى ملعبه من قبل «لجنة تعديل الدستور» بشأن أولوية اجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وصحيح أن حسم اجراء الأولى بالمخالفة لما تم الإعلان عنه مسبقا فى اعقاب اعلان «خارطة الطريق»، إلا أنه تشاور مع كثير من القوى السياسية والأحزاب والشخصيات العامة قبل إصدار قانون الانتخابات.
فيما بعد الرئاسة، ستحسم ساعات قليلة مقبلة المصير المهنى لمنصور، لكنه وبغض النظر عن استمراره قاضيا أو الدخول إلى ملعب التشريع فى البرلمان؛ إلا أنه يظل رئيسا استثنائيا من حيث القدرة على حصد التقدير من قبل معظم المصريين، إلى حد مطالبتهم له قبل انطلاق الانتخابات الرئاسية بالترشح لتولى الرئاسة بشكل دائم.
الوصية الأخيرة: ترجموا طموحات الثورة واعملوا
فى أعقاب إدلائه بصوته فى الانتخابات الرئاسية طالب منصور المصريين بـ«إثبات أن مصر تسير فى الطريق الصحيح لترجمة طموحات وآمال ثورة 30 يونيو إلى الاستحقاقات الدستورية التى نصت عليها خارطة الطريق التى توافقت عليها القوى الوطنية فى 3 يوليو 2013»، مؤكدا أن المرحلة المقبلة تتطلب إعلاء أهمية قيمة العمل، ومواجهة التحديات الاقتصادية الحالية لبناء مصر المستقبل.
عبدربه: دوره كان تنسيقيًا.. ومن الطبيعى ألا يحاسب عن فترة حكمه
اعتبر الدكتور أحمد عبدربه، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن تقييم فترة حكم الرئيس المؤقت عدلى منصور لابد من التركيز خلالها على عدة ملامح، منها أنه كان دائم التصريح بأنه رئيس جاء لشغل المنصب الشاغر بعد عزل الرئيس السابق، محمد مرسى، والتأكيد خلال لقاءاته وبياناته وخطاباته على أنه رئيس انتقالى.
واعتبر عبدربه أن منصور كان دوره تنسيقيا بين السلطات وأجهزة الدولة أكثر من كونه رئيسا بالمعنى المعروف الذى يتضمن كل الصلاحيات الواسعة، وكان وجوده رمزيا وبالتالى لا يصح أن نحاسبه عن فترة حكمه، مضيفا: «من الطبيعى ألا يحاسب منصور عن ملفات مثل الصحة والتعليم وحجم الانجاز فيها بسبب طبيعة فترة حكمه المؤقتة والانتقالية». وأوضح أستاذ العلوم السياسية أن من المآخذ على فترة حكم منصور والتى يجب وضعها فى الاعتبار، أنه تمت فى عهده عملية فض اعتصامى رابعة والنهضة باستخدام القوة المفرطة، وسقط خلال ذلك عدد من الضحايا، ولم يتم إجراء تحقيق جدى فى تلك الواقعة رغم أنه قاضٍ. وبخصوص ما يتعلق بالانتقادات الموجهة إلى منصور بشأن افراطه فى استخدام السلطة التشريعية التى منحها له الاعلان الدستورى فى ٣ يوليو، قال: «منصور لم يقصد استخدام السلطة بشكل واسع»، معتبرا ــ ما سماه بـ«تحالف حكم مصر» الممثل فى الجيش والأجهزة الأمنية ــ كان يرغب فى انهاء وترتيب بعض الأمور الخاصة التى تحتاج إلى تشريع قانونى قبل تشكيل البرلمان القادم لإنهاء أى جدل أو تعطيل قد يحدث أثناء نظره فى البرلمان، مثلما حدث مع صدور قانون التظاهر وبعض القوانين الاقتصادية.
سكينة فؤاد: المصريون ثمّنوا دور منصور لأنهم شعروا بمصداقيته وانضباطه
قالت الكاتبة الصحفية سكينة فؤاد، مستشارة الرئيس لشئون المرأة، إن الفترة التى تولى فيها المستشار عدلى منصور، رئاسة الجمهورية، كانت بالغة التعقيد والحساسية من حيث الاحتقان السياسى والعمليات الإرهابية؛ إلا أنه استطاع خلال مدة رئاسته إنجاز أهم خطوتين فى خارطة الطريق، وهما إقرار تعديلات الدستور، وإجراء انتخابات رئاسة الجمهورية.
وأشارت فؤاد إلى أن المصريين ثمنّوا دور منصور لأنهم شعروا بالمصداقية والانضباط فى خطبه وقراراته، مشيرة إلى أنها خلال فترة عملها مع الرئيس المؤقت كانت تلاحظ أن عقلية القاضى هى المسيطرة على تصرفاته وقراراته، وأنه لم يكن يصدر قرارا إلا بعد مراجعة وافية لأوراقه من الناحية القانونية.
واعتبرت أن اختيار منصور لرئاسة الدولة فى أعقاب عزل الرئيس السابق، محمد مرسى، كان فيه «مصادفة قدرية»، تتعلق بأنه اختير لمنصبه كرئيس للمحكمة الدستورية، وليس لشخصه، لكن تلك المصادفة أثبتت أن مصر بها قامات وطنية على قدر المسئولية. وكشفت مستشارة الرئيس عن أنها خلال اللقاء الأول الذى جمعها بالرئيس منصور، فوجئت بأنه قارئ جيد ومتابع لجميع ما كتبته فى صحيفة الأهرام التى تعمل بها، وتحديدا فيما يتعلق بقضايا الأمن الغذائى وزراعة القمح، وكذلك قضايا المرأة.
وبشأن الانتقادات التى وجهت لمنصور على خلفية إصداره لقانون تنظيم التظاهر الذى انتقدته القوى السياسية لتعارضه مع المبادئ الحقوقية بحسب تقديرهم؛ قالت فؤاد: «الرئيس كان حريصا على إقامة التوازن بين الحريات وتحقيق الأمن واحترام القانون، وكذلك مراعاة استقرار الاوضاع وألا تنتشر الفوضى».
ولفتت فؤاد إلى أن وعد منصور بالعفو عن المتظاهرين الذين تم إلقاء القبض عليهم بسبب مخالفة قانون تنظيم التظاهر لم يتم تنفيذه حتى الآن، لأنه كان مرتبطا بصدور قرار نهائى من المحكمة، بما يمكن رئيس الجمهورية إصدار العفو على أساسه.
وبشأن تقديرها للخطوة المقبلة للرئيس منصور، قالت إنها وبحكم العمل معه تعتبر نفسها فى حرج من الحديث فى تلك النقطة حتى لا تمثل ضغطا عليه، لكنها أكدت على أن القرار الصحيح هو الذى سيتخذه منصور أيا كان، سواء العودة للمحكمة الدستورية رئيسا، أو مغادرة المناصب العامة، واستطردت: «سيدرس الأمر من جميع جوانبه، ويختار ما يراه ملائما لمصلحته».
جولات مكوكية
السعودية
لم يكن غريبا أن بدأ عدلى منصور زياراته بالسفر إلى المملكة العربية السعودية أحد أكبر الداعمين لثورة الـ30 من يونيو، حيث زارها منصور فى 7 أكتوبر 2013 فى زيارة وصفت بأنها رد جميل للملك عبدالله خادم الحرمين الشريفين لموقفه الحازم من الدول التى وقفت ضد مصر فى ثورة الـ30 من يونيو وجولات وزير خارجيته سعود الفيصل المكوكية لكسب تأييد الاتحاد الأوروبى وفرنسا للثورة، والتراجع عن وصف ما حدث بالانقلاب.
الزيارة التى حازت ترحيبا كبيرا من كلا الجانبين جاءت فى إطار تأسيس لمرحلة جديدة من العلاقات المصرية السعودية خصوصا بعد ثورة 25 يناير، خصوصا أن السعودية كانت تنتظر لترى ما سوف تسفر عنه التطورات السياسية فى مصر. وخلال الزيارة التى بحث فيها الملك عبدالله والرئيس عدلى منصور العلاقات الثنائية الاقتصادية وتبادل الخبرات الأمنية، قال الملك عبدالله: إن المملكة العربية السعودية تقف بجانب شقيقتها مصر حكومة وشعبا للقضاء على الإرهاب والضلال والفتنة، وتجاه كل من يحاول المساس بشئون مصر الداخلية.
وأثمرت تلك الزيارة عن العديد من المكاسب المهمه التى يأتى على رأسها الدعم السياسى والمالى من المملكة العربية السعودية لمصر، بجانب موقف السعودية الحاسم من سياسة قطر تجاه مصر وقيام السعودية بجانب الإمارات والبحرين بسحب سفرائهم من قطر احتجاجا على دعم الإماراة الخليجية للحركات المتطرفة فى مصر.
الأردن
ثانى زيارات الرئيس عدلى منصور جاءت غداة زيارته الأولى إلى السعودية، حيث زار المملكة الأردنية الهاشمية لتوجيه الشكر للملك عبدالله على دعمه المطلق لمصر ولثورة 30 من يونيو.
فسر البعض زيارة الأردن على أنه الضلع الثالث الذى يكمل مصر والسعودية كأكبر 3 دول فى المنطقة العربية بها تجمع لتنظيم الإخوان، فجاءت الزيارة والتشاور من الملوك والرئيس لوضع ملامح مستقبل تلك الدول بعد سقوط الإخوان فى مصر، ولما يشكله الإخوان من قوة معارضة قوية فى السعودية، وفى الأردن على أنها القوة الرئيسية التى تتحدى شرعية النظام هناك.
ووفقا لبيان صادر من الديوان الملكى الهاشمى فإن الملك عبدالله شدد على أن الأردن تنظر إلى مصر الشقيقة على أنها دولة مهمة وأساسية فى محيطها العربى والإقليمى، وأنه يدعم خيارات شعبها الديمقراطية.
الكويت
استمرت جولات الرئيس منصور المكوكية فى المنطقة العربية فكان من الطبيعى ان يوجه بوصلته إلى الكويت ـ وهى البلدة الوحيدة التى زارها منصور 3 مرات ـ الأولى فى فى أكتوبر لبحث سبل التعاون الاقتصادى بين البلدين، والثانية فى نوفمبر للمشاركة فى القمة العربية الإفريقية، والثالثة فى مارس الماضى لحضور القمة العربية الـ25 التى أقيمت بها. وجاءت كلمة الرئيس منصور فى القمة العربية حاسمة خاصة فيما يتعلق بموقف مصر من الدول العربية التى ساندتها أثناء ثورة 30 يوينو حيث قال «مصر لن تنسى أبدا الدعم العربى الذى قدم لها، وعلى من يقف فى المسار الخطأ، أن ينضم إلى مسيرة التآزر والتضامن العربى مع مصر».
الإمارات
اختتم منصور جولاته الخارجية على المستوى العربى بزيارة الإمارات أحد أبرز الداعمين لمصر فى ثورة الـ30 من يونيو ويكفى أن أول زيارة لمسئول خارجى لمصر بعد 30 يونيو كانت للشيخ محمد بن زايد آل نهيان نائب رئيس الإمارات، الذى أعلن وقتها دعم الإمارات الكامل لمصر وتأييدها لثورة الـ30 من يونيو، معلنا عن سلسلة من المشروعات التى تهدف إلى دعم الاقتصاد المصرى.
العلاقات الروسية
على المستوى الأوروبى جاءت زيارة وزيرى الدفاع والخارجية الروسى فى 14 نوفمبر الماضى، تأكيدا من الجانب الروسى على التزامه بموقفه تجاه مصر بعد اعترافه الكامل بمشروعية ما حدث فى 30 يونيو.
الزيارة التى جاءت بعد توتر «خفى» للعلاقات المصرية الروسية طوال عهد الرئيس المخلوع ومن خلفه الرئيس المعزول، اعتبرت بمثابة سياسة خارجية جديدة اتبعتها مصر بعد 30 يونيو، فى تنوع المصالح والتوازنات الخارجية، التى ظلت غير متوازنة فى العقود الثلاثة الأخيرة لاعتماد الحكومة المصرية الكامل على الانحياز للجانب الأمريكى وتهميش دور الجانب الروسى. الزيارة بحث خلالها الرئيس عدلى منصور مع الوفد الروسى التعاون الاقتصادى ودور روسيا فى تدعيم مصر اقتصاديا وعسكريا بعد 30 يونيو.
اليونان
تعد زيارة منصور لليونان فى يناير الماضى ذات بعد استراتيجى لاستعادة دور مصر فى منطقة حوض البحر المتوسط، وهو ما أكده منصور فى كلمته مع الرئيس اليونانى حيث أشار إلى أن مصر تهتم بإعادة صياغة علاقاتها مع جيرانها المتوسطيين، ولذلك قرر أن تكون أول زياراته بعد إقرار الدستور إلى إحدى تلك الدول.