يتوازى الاحتفال بذكرى ميلاد السيدة أم كلثوم مع الاحتفال باستقبال العام الجديد؛ حيث وُلدت في 31 ديسمبر 1898 بقرية طماي الزهايرة في محافظة الدقهلية، واسمها فاطمة إبراهيم السيد البلتاجي.
وبدأت أم كلثوم مشوارها الفني مبكرًا، حيث إنها في العاشرة من عمرها شاركت ضمن فرقة والدها الإنشادية في إحياء الحفلات بقريتها والقرى المجاورة، إلى أن اتسعت شهرتها مع استقرارها في القاهرة بعد أغنية «الصب تفضحه عيونه» من كلمات أحمد رامي وتلحين أحد مكتشفيها الشيخ أبو العلا محمد.
وكانت حفلات السيدة أم كلثوم بمثابة حدث فني لا يُنسى، ينتظره الجمهور بشغف في كل أول خميس من الشهر. اعتادت "كوكب الشرق" أن تقف على المسرح كملكة تُطرب مستمعيها، فتنقلهم بصوتها الساحر إلى عوالم من الشجن والطرب الأصيل.
ويروي فكري صالح تجربته ومعايشته لحفلات الست في كتابه: "أم كلثوم وأنا.. 5 شارع أبو الفدا"، الصادر عن دار الهالة.
العمدة الطحان وخصوصية حفلات الست
كان الجمهور يصل حوالي الساعة التاسعة، وكانت الأناقة من أول الملحوظات؛ الرجال يرتدون البدل الوجيهة، والسيدات بملابس آخر صيحات الموضة العالمية وقتها.
كان الاستثناء في الزي العمدة سعيد الطحان، الذي كان يُلقب بالسميع الأول، وكان يرتدي الجبة والقفطان بوجاهة ووقار. لا أذكر اسم القرية التي كان عمدتها، لكنه كان يحضر كل حفلاتها، وكان مكانه في منتصف الصف الأول بجوار الأستاذ أحمد رامي في معظم الحفلات.
حشود في المسرح
كان من ضمن الجمهور شخصيات كبيرة من المجتمع المصري والدول العربية والأجنبية من أهل الفن والأدب والسياسة وغير ذلك.
كما قال شاعر الشباب الأستاذ أحمد رامي: «الجمهور كان يحتشد لسماعها كأنما يستقبل عيدًا من أعياد الدهر».
حتى الساعة العاشرة والنصف تقريبًا، كنا نسمع أصوات آلات موسيقية من وراء الستارة في نغمات لا نعرفها.
علمت بعد ذلك أن الفرقة كانت تستعد، وأن أم كلثوم بنفسها كانت تتأكد أن كل الآلات الموسيقية مضبوطة.
وبعد ثلاث دقات وبدون مقدمات ينفرج الستار، وتظهر كوكب الشرق، ويقف الجميع كبيرًا وصغيرًا، وتضج القاعة بعاصفة من التصفيق المتواصل لأكثر من عشر دقائق أحيانًا. وتسمع هتافات مثل: «عظمة على عظمة يا ست» وعبارات أخرى كلها حب وتقدير لها.
ثم تجلس أم كلثوم على كرسي أمام الفرقة، بينما تعزف الفرقة المقدمة الموسيقية للأغنية.
أنظر إلى وجهها فأرى بشاشتها أثناء استماعها للنغم وتركيزها. ثم تدب بقدمها دبة خفيفة، وعند قرب انتهاء المقدمة تقف أم كلثوم فيصفق الجمهور، ويعتقد المستمعون بالراديو أن التصفيق كان للمقدمة. تغني وتدب بقدمها دبة خفيفة، ثم تمد رقبتها وترمي بعينيها نظرة سابحة إلى آفاق بعيدة.
وأذكر حينذاك وصف أمير الشعراء أحمد شوقي لها في قصيدته «سلوا كؤوس الطلا» حين قال:
ألقت إلى الليل جيدًا نافرًا
ورمت إليه أذنًا وحارت فيه عيناها
باتت على الروض تسقيني بصافية
لا للسلاف ولا للورد رياها
كان الأستاذ أحمد رامي لا يستطيع أحيانًا البقاء لسماع الوصلة الثالثة، لأنها كانت تبدأ بعد الساعة الثانية أو الثالثة صباحًا. فكان يُعطيني كعب تذكرته لأجلس في مكانه في منتصف الصف الأول، وهو أحسن مكان.
وذات مرة كنتُ أتحدث معه على باب سينما قصر النيل قبل الوصلة الثالثة، وطال الحديث معه. ذهب هو إلى منزله، ودخلت أنا للجلوس في مكانه، وكانت المقدمة الموسيقية قد بدأت تعزف، وأم كلثوم جالسة على الكرسي والأضواء عليها، بينما أضواء الصالة خافتة. وهي بالطبع لم تكن تلبس النظارة وهي تغني.
ذهبت بهدوء متجهًا إلى مكان كرسي الأستاذ أحمد رامي الذي كان أمامها مباشرة، ولاحظت نظراتها نحوي بقلق حتى وصلت إلى الكرسي. وعندما لاحظت وجهي ابتسمت وذهب القلق من وجهها.
السبب في ذلك هو أنها ظنت أنني شخص مجنون سيصعد على المسرح لكي يُقبل يدها أو يقوم بشيء آخر.
كان الزمن مختلفًا عما هو عليه الآن، فلم يكن هناك رجال أمن داخل أو خارج الصالة، ولم يكن هناك رجال أمن أمام منزل أم كلثوم أيضًا.
أجواء من حفل باريس
وبالرغم من الأمن الشديد الذي كان في مسرح الأوليمبيا في باريس عندما كانت تغني الأطلال في حفلة بعد حرب 67، صعد رجل على المسرح وحاول أن يُقبل قدمها. لكنها رفضت وسحبت قدمها ثم فقدت توازنها ووقعت. وبعد كل ذلك صعد رجال الأمن على المسرح للقبض على هذا الرجل.
أضف إلى ذلك أن حظي في الجلوس في الصفوف الأمامية جعلني أسعد بسماع صوتها مباشرة دون الأجهزة الصوتية (الميكروفونات ومكبرات الصوت).
ففي ذلك الوقت لم تكن أجهزة التسجيل متطورة كما هي الآن. ومهما كان صوتها جميلًا في التسجيلات التي نسمعها الآن، فكان صوتها الطبيعي أجمل بكثير. أنا شاهد على ذلك، ولست شاهدًا فقط بل مستمعًا أيضًا.