فرنسا الاشتراكية.. ومصر الثورية - أحمد حاتم المصرى - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 5:43 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فرنسا الاشتراكية.. ومصر الثورية

نشر فى : الأحد 13 مايو 2012 - 8:55 ص | آخر تحديث : الأحد 13 مايو 2012 - 8:55 ص

بعد 31 عاما من فوز الاشتراكيين للمرة الأولى بمنصب الرئيس فى فرنسا، فاز فرانسوا أولاند بمنصب الرئيس السابع للجمهورية الخامسة، كثانى رئيس اشتراكى لفرنسا بعد 17 عاما من مغادرة الرمز الاشتراكى الأبرز فرانسوا ميتران للرئاسة عام 1995.. وخرج من الإليزيه نيكولا ساركوزى الرئيس اليمينى ذو النشاط الوافر والتحالفات المتقلبة والهوى الأمريكى الأقرب لنهج المحافظين الجدد.. وفرض اليمين المتطرف نفسه بقوة على المشهد من خلال احتلال مارين لوبن الزعيمة الكاريزمية للجبهة الوطنية للمركز الثالث.

 

●●●

 

تعبر هذه الانتخابات الرئاسية الفرنسية بنتائجها وتداعياتها المنظورة عن مشاعر وآمال عراض تقترب من مشاعر وطموحات الثورات: من حيث استشعار عمق الأزمة وضرورة تغيير الشخوص والسياسات المسئولة عنها، والارتياح الغامر ــ لدى غالبية الفرنسيين ــ الذى يصاحب نهاية العهود والحكومات الفاشلة، وأيضا الرغبة فى إعادة التشكيل السريع لتضاريس الخريطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدولية لفرنسا: خريطة جديدة.. عنوانها الرئيسى الأزمة وتحدياتها، وعنوانها الثانى التغيير ومصاعبه، والثالث الهوية ومشكلاتها، لإمبراطورية سابقة ودولة كبرى فى حالة أزمة عميقة متكاملة الأركان، تشكل ــ مع ألمانيا ــ قلب حلم أوروبى تعصف به الأنواء!

 

●●●

 

يقول محللون إن أولاند لم يربح ولكن ساركوزى هو بالأحرى الذى خسر: فرغم جهوده الكبيرة فى احتواء الأزمة المالية والاقتصادية العاتية التى تعصف بأوروبا وفرنسا منذ عام 2008 إلا أن ساركوزى أخفق بوضوح فى تخفيف الأثر الاقتصادى ــ الاجتماعى السلبى الحاد للأزمة. لكن تصويت غالبية الفرنسيين ضده كان موجها بالأساس ضد «النموذج الساركوزى» فى الحكم والسياسة، الذى لا ينسجم مع تقاليد الدولة الفرنسية التى يترفع فيها الرئيس عن الانغماس المباشر الحاد فى المجابهات السياسية، ويحظى بقدر من التباعد ــ الرسمى على الأقل ــ مع كبار الاقتصاديين ورجال الأعمال والإعلام، ويدير الدولة بشكل يتسم بالرسمية والبعد عن الخفة، ويحرص على إبعاد أصدقائه ومعارفه عن المناصب العليا، ويعمل على تجميع الشعب لا بث الشقاق بين طوائفه وطبقاته. وقد كانت آراء وسلوكيات وسياسات ساركوزى عكس كل ما سبق. بقول آخر، اعتبرت الغالبية من الفرنسيين أن ساركوزى بشخصه وبرنامجه ليس الأنسب للتعبير عن حقيقة بلادهم وطابعها القومى فى الداخل والخارج ولا لمواجهة حالة الأزمة الحادة التى تمر بها فرنسا.

 

●●●

 

من عدم الإنصاف القول إن أولاند واليسار لم يحققا الانتصار إلا لتراجع شعبية ساركوزى. ففى فترة وجيزة لا تزيد على العام استطاع أولاند، الكادر الحزبى العتيد المعروف بميله للحلول الوسط وبصعوده الهادئ المتواصل فى أجهزة الحزب الاشتراكى، والذى لم يسبق له تولى أى منصب وزارى، تقديم نفسه من خلال سلوكه الشخصى وبرنامجه وفريقه الانتخابى باعتباره بديلا قويا يحمل رسالة واضحة: ضرورة التغيير الفورى والإصلاح العاجل واستعادة الهوية الفرنسية، من خلال برنامج ومؤسسات أكثر تعبيرا من الناحية الثقافية عن فرنسا المجتمع والدولة، وأكثر حرصا من الناحية الاجتماعية على الاصطفاف إلى جانب المستضعفين والشباب والفئات المتضررة من الأزمة، ورئيس أكثر قدرة على الحفاظ على التوازن داخل المجتمع الفرنسى بتنوعه العرقى والدينى الصعب، وأكثر استقلالية فى التحرك الدولى عن الولايات المتحدة وفى أسلوب قيادة أوروبا للخروج من الأزمة عن ألمانيا.

 

●●●

 

الأكثر إثارة للانتباه هو الاختراق اللافت الذى حققته مرشحة اليمين المتطرف، حيث صوّت لصالحها 18% من الناخبين الفرنسيين (6.8 مليون شخص)، فقد نجحت مارين لوبن من خلال شخصيتها الكاريزمية ولباقتها الإعلامية ولغتها الصريحة فى اجتذاب أصوات العديد من الفئات والشرائح التى تتجاوز التصنيفات التقليدية من ناحية العمر والوظيفة والأصل العرقى والمنطقة الجغرافية، وكان المحرك الرئيسى لحملتها هو شخص ساركوزى وسياساته التى لا تراعى الصالح القومى الفرنسى وتبتعد عن العدالة من وجهة نظرها، حيث غلّبت هذه السياسات مصلحة أوروبا من خلال مساندته للحفاظ على اليورو المنهار وبرنامج التقشف الذى تفرضه ألمانيا، كما قدّمَت مصلحة الولايات المتحدة من خلال دعم ساركوزى لسياسات العولمة الأمريكية على حساب العمال والحرفيين والفلاحين والعاطلين فى فرنسا. بالإضافة إلى ذلك، ركزت لوبن بشدة على المخاوف التقليدية لدى اليمين المتطرف الأوروبى، حيال الإسلام والمسلمين بزعم عدم التلاؤم مع نموذج الحياة الفرنسى وعلمانية الجمهورية الفرنسية، وتجاه المهاجرين والأجانب المقيمين بدعوى تضييقهم على الفرنسيين الأصليين فى فرص التوظيف والسكن، كما شنت هجوما حادا بالتبعية على اتفاقية شنجن التى تفتح الحدود الفرنسية من وجهة نظر اليمين المتطرف أمام المهاجرين من كل صوب وحدب.

 

●●●

 

السؤال الآن هو كيف ستنعكس هذه الخطوط الكبرى للمشهد السياسى الفرنسى على علاقات مصر الثورة بفرنسا الاشتراكية؟

 

يلزم التنويه هنا إلى التفاهم الكبير الذى شهدته علاقات القمة المصرية الفرنسية فى عهد ساركوزى- مبارك، والذى تأسس على التشابه إلى حد التطابق بين قيم وسلوكيات مبارك وجمال ومجموعة جمال وبين ساركوزى ومجموعته من الأصدقاء-كبار المسؤولين، وهو ما وفر أرضية واسعة لعلاقات ودية متينة بين القيادتين والمجموعتين. فى هذا السياق، لم يكن من الغريب أن يسافر الرئيس المخلوع إلى باريس للترويح وتلقى العلاج تحت غطاء الزيارات الرسمية، بتكرارية لا نظير لها فى العلاقات بين الدول المحترمة، بلغت زيارة كل شهرين بصحبة وفد مئوى العضوية. كما لم يكن من المستغرب أن يستضيف نظام المخلوع الرئيس الفرنسى المنتهية ولايته وزوجة المستقبل لتمضية شهر عسل مبكر فى الأقصر، أو أن يسافر رئيس وزراء ساركوزى على نفقة الدولة المصرية لتمضية عطلة أعياد الميلاد فى أسوان، قبل أسابيع فقط من قيام ثورة يناير المجيدة.

 

 

فى هذا الإطار أيضا من البحث عن دور إقليمى وعن تحالفات جديدة لدى القيادتين السابقتين، نشأت منظمة فضفاضة غير واضحة المعالم والأهداف، تحت اسم «الاتحاد من اجل المتوسط» بمبادرة ورئاسة مشتركة للرئيس المخلوع مع الرئيس الفرنسى المنتهية ولايته. وهى منظمة يتضاءل الآن دورها تدريجيا وستنتهى على الأرجح إلى الضمور.

 

●●●

 

بطبيعة الحال، فإن مواقف فرنسا أولاند حيال القضايا العربية لن تشهد تحولات كبيرة باستثناء إبداء قدر من التمهل حيال أى تدخل عسكرى قد يُضطر الرئيس الفرنسى الجديد إلى المشاركة فيه. وبنفس المنطق فإن العلاقات المؤسسية بين مصر وفرنسا والمصالح الاقتصادية والعسكرية والثقافية المشتركة العميقة بينهما لن تتأثر بشكل جذرى بتغير الرئيس الفرنسى أو بانتخاب رئيس مصرى جديد بعد الثورة، ولكنها يمكن أن تتخذ شكلا أكثر رشادة وتوازنا. ومن حسن طالع القيادة الجديدة فى فرنسا والجديدة المرتقبة فى مصر أن العلاقات بين الدولتين بصدد التحرر من الأساليب الشخصانية الفاسدة لإدارة العلاقات الثنائية فى عهد مبارك-ساركوزى، مع أهمية مراجعة دور أولئك المسئولين ورجال الأعمال المصريين الذين احتكروا وصادروا المصالح المصرية لصالحهم الشخصى فى إطار علاقات الدولتين.

 

وسيكون من المنطقى أن يسعى الرئيس الفرنسى الجديد إلى تعزيز علاقات بلاده بمصر الثورة باعتبارها أهم دول الربيع العربى، الذى سيسعى أولاند لاستثمار الظهور فى إطاره لتعزيز شعبيته على الصعيد الداخلى وشعبية بلاده لدى شعوب الثورات العربية، مستندا فى ذلك إلى التقارب الطبيعى بين أهداف الثورة المصرية وغايات الحزب الاشتراكى فى التغيير السياسى وتعزيز الحريات وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة فى الفرص. ومن المفيد للجانب المصرى شق قناة اتصال رشيدة مع فرنسا الجديدة التى وإن كانت فى أزمة حادة إلا أنها تظل إحدى الدول الخمس الكبرى، مع ضرورة حرص مسؤولى مصر الجدد على الاستثمار فى واقع الاحترام المتبادل الجديد القائم على علاقات «الندية الثورية» بين الثورتين المصرية والفرنسية، والأهمية الإقليمية والرمزية للدولتين فى محيطهما الجغرافى والسياسى.

 

●●●

 

من وجهة نظر صانع السياسة المصرية الخارجية، قد يكون الملمح الأهم فى المشهد السياسى الفرنسى الجديد هو الصعود الكبير لليمين المتطرف، بخطابه المناهض للأجانب وغير المرحب بالإسلام والمسلمين، حيث قد يشكل وصول هذا التيار إلى الحكم فى المستقبل ــ وهو ما لم يعد بالإمكان استبعاده الآن ــ خطورة على المصالح المصرية، فى ضوء عدم وضوح رؤية هذا التيار تجاه قضايا السياسة الخارجية وبالذات للمنطقة العربية، وبصفة خاصة دول الثورات العربية التى تشير معظم المؤشرات إلى أن تياراتها الإسلامية سيكون لها دور سياسى كبير خلال السنوات القادمة.

 

بالتالى، فبعد تعزيز الاتصالات مع الحزب الاشتراكى الفرنسى، الذى يسيطر الآن على منصب الرئيس ويحظى بالأغلبية فى مجلس الشيوخ والمجالس المحلية والإقليمية ويُنتظر أن يحصد الأكثرية فى الجمعية الوطنية الشهر القادم، فقد يكون من المناسب أن يقوم جهاز السياسة الخارجية فى عهد الرئيس الجديد ــ فى وقت ما وبشكل ما ــ بعملية متابعة وتعرف على حزب الجبهة الوطنية اليمينى المتطرف فى فرنسا، الذى دشنت الأزمة والانتخابات الرئاسية الفرنسية عملية «تطبيعه» فى الحياة السياسية الفرنسية، فى نقلة نوعية موازية ومشابهة نسبيا من حيث الأثر لعملية تطبيع حضور التيار الإسلامى فى المشهد السياسى المصرى عبر ثورة 25 يناير والانتخابات البرلمانية التى أعقبت الثورة، مع الفارق الواضح بين التيارين فى طبيعة الخطاب والرسالة وفى الشعبية والمسار والبيئة السياسية والغايات النهائية. وتنسحب عملية المتابعة والتعرف المقترحة على الأحزاب اليمينية المتطرفة فى الدول الكبرى الأخرى، فى ضوء ما ينبئ به مناخ الأزمة الذى يخيم عليها من احتمالات لوصول هذه الأحزاب للسلطة فى هذه الدول فى مستقبل ليس ببعيد.

التعليقات