عَظَمَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:27 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عَظَمَة

نشر فى : الجمعة 1 مارس 2019 - 11:00 م | آخر تحديث : الجمعة 1 مارس 2019 - 11:00 م

عَظَمَة على عَظَمَة يا سِت. تصول ”الست“ وتجُول، ويهتف بعضُ السامعين المَفتونين بالعبارة مِن جديد، وينضَمُّ إليهم آخرون يطلبون الإعادةَ؛ فتُعيد المَقطعَ استجابةً لمُريديها. تألَّقت أمُ كُلثوم كما لم يتألق في عصرِها أحد، واستقرَّت على عرشِ الطَربِ قامةً سامقةً، ذات شأنٍ عظيم.

تعكس المواقفُ المَروِيَّةُ عن ”الست“ مُفرداتِ شخصيتِها، وتُفصِح عن جوانب ربما تضاهي في إشراقها صدى الصوتِ العتيّ. يُذكر من بين الحكايات والذكريات؛ أن أُم كُلثوم انبرَت وحدَها تدعم الأخوين عليّ ومصطفى أمين، وقتَ الشدَّة التي تعرضا لها، وخاطرت بمجدِها في مُواجَهة الباطشِ العظيم. لم تنسحب وتتنكَر لهما كما فعل الأقربون خوفًا، ولا اتخذت ساترًا يقيها شرًا مُحتملًا. لم تبحث عن حُجَّة؛ وما أكثرَ الحُجَج المَقبولة في عهود الاستبدادِ، ولم تَتَخل عما رأته واجبًا أصيلًا. العَظَمةُ قد تأتي هبةً مِن السماءِ، وقد تكون اختيارًا وإرادة.
***

على الشاطئ المُقابل عاشت إديث بياف؛ امتلكت أحدَ أروعِ الأصواتِ وأصلب الشخصيات وأغناها. اخترقت حنجرتُها الحواجزَ وجابت الأرجاءَ؛ لتُرجِف الأبدانَ وتهتزُّ لها القلوب. مُعاناة المُغنية الفرنسية منذ كانت طفلةً مُعدَمة لا تملِك أبسطَ الحقوق، ولا أدنى شروطِ الحياة الآدمية؛ مُوجعةٌ بما لا تصِف الكلماتُ، وكفاحها حتى لحظات النهاية مُهيبٌ، عظمتُها في الصمُود أمام المَلمَّات، ومقاومتها العِلل التي أخذت تفتَت جسدَها النحيل، قَلَّ أن يوجد لها مَثيل. أذكر العرضَ السينمائيّ الذي جَسَّدَ حياتها، ولا تنمحي مِن ذهني نهنهاتُ الحاضرين جميعهم مع إسدالِ الستار.
***
ندر أن يختلفَ الناسُ على مَكانة السيدتين. كلتاهما في قوةِ واستقرار الصوتِ؛ ذروةٌ، وفي امتلاكِ الإيقاعِ؛ آيةٌ، وفي وقفَةِ الكبرياء؛ مِثالٌ، وفي سُدَّة المَجد؛ تمامٌ واكتمال. حياتان ثريَّتان على تبايُن مَساريهما، وتاريخٌ عريضٌ، مَتين الجذور، وعَظَمةٌ لم تكُن أبدًا وليدةَ الصوتِ وحده.

مَن هو العظيم؟ .. مَن الذي يستحقُّ الوَصفَ؟

تذكر مَعاجِم اللغة العربية أن "العِظَمَ" بوجه عام هو نقيض الصِّغَر، ومنها "عَظَّمَ" الأمرَ أي؛ كَبَّره، وتعظِيمُ الشيءِ هو تبجيله، وحين يُوصَف أمرٌ بأنه عَظيمٌ؛ فالمُراد أن له ثِقلًا مَلمُوسًا، سواءً كان طيبًا أو خبيثًا. تجمع مُفردة العَظمَة بين الكبرُ والزَّهْوُ والنّخْوةُ والكبرياء، ويُقال عن الرجلِ إنه عظِيمٌ في المَجْدِ والرَّأْي، ومنه أن عَظَماتُ القَوْمِ هم سادتُهم وذوو شَرَفِهم.
***

إذا تطرَّق الحديثُ لألاعيبٍ تدور في الخفاء، ومؤامراتٍ تُحاك في مَهارةٍ واقتدار، اتجهت النوايا والأنظار نحو المَرأة، وسُمِعَ على الفور التعبير الشهير: "إن كيدهُنَّ عظيم". الكيد هو الخبثُ والمَكر، فإذا اجتمع بوصفِ العَظَمَة، استتبعته في العادة نتائجٌ وَخيمة. يُقال كذلك إن وراءَ كُلّ عظيمٍ امرأةٌ، والقصد أنها شاركت في صناعةِ مَجده، لكنها بقيت في الخلفيةِ لا تظهر؛ تواضُعًا منها، أو غبنًا مُورِسَ عليها. هذا القولُ المَأثور تغيَّر قليلًا في السنوات الأحدث، ومع تنامي الوعي بمَكانة المَرأة الآنية، ومَكانها المُرتجى في كُل حين؛ زيدَت كلمتان فأصبحت العبارة: ”وراءَ كُلّ عظيمٍ امرأةٌ أعظمَ مِنه“، سخريةً ربما، مُحاولة لردّ الاعتبار ربما، أو استرجاعًا لحقّ مَسلُوب.
***

”أعظم“ هو اسم تفضيل؛ واسم التَفضيل يدلُّ على اثنين اشتركا في صفةٍ واحدة، وزاد أحدهما فيها على الآخر؛ فإذا جاء التَفضيلُ مُعرَّفًا، تفرَّد به المَوصوف. يقع شارع البحرِ الأعظم في مدينة الجيزة التي وصفها المقريزي بأنها؛ قريةٌ كبيرةٌ وجميلةُ البنيان. اكتسبت الجيزةُ اسمَها مِن اجتياز القبائل اليمنية لها، أما اسم الشارع المَشهور فيشير إلى نهرِ النيل؛ النهر الذي كان ”الأعظم“، فصار مُؤخرًا بين ”الأفقر“.
***

صِيغت مُشتقَّاتُ مِن مفردة ”عَظُمَ“ لإرضاء الذواتِ العالية واسترضائِها، وقد دَرَجَ الناسُ في عهود سالفة على مُناداة أولياءِ نعَمِهم بلقب ”عَظمَتك “، بل وبجمعها بعضَ الأحيان ”عَظَمَتكم“؛ إمعانًا في التفخيم. استعان عَظَمَةُ السلطان مارينجوس الأول بشبيه له، خوفًا مِن مُؤامرةٍ دبَّرها الأعداءُ للتخلُّص مِنه. لم تُكسِبه عَظَمَتُه المَوروثة؛ أماراتِ الشجاعةِ والإقدام، ولا كَفَته عناءَ التخفّي واجتناب المراسم العامة والاجتماعات. أدّى فريد شوقي دورًا مُزدوجًا مِن أَخَفّ أدواره؛ فكان ”حَسَن“ المُتهور الجريء، و“مارينجوس“ المُتزن الحَكيم؛ ترى أيهما استحقَّ اللقَبَ، ودانت له العَظمَةُ؟
***

ثَمَّة مَن يرِثُ آياتِ العَظمَةِ والفخار؛ فلا يضيف إليها ولو حجرًا ذا قيمة، ولا يُشيّد إلا أبنيةً مِن صَفيح؛ تبرقُ ولا تدومُ، وثمَّة مَن لا يترك له الأسلافُ وِرثًا تليدًا أو مَجدًا؛ لكنه يبني وحده ما يفتح له في كتابِ التاريخِ صفحةَ العظمَاء.

اعتدنا الحديثَ عن الأوائلِ، مُقدمين على ذكرهم الوَصفَ المُلهِم؛ نتحاكى عن "عَظَمةِ" الأجداد، ونتباكى على مَجدِهم البائد، وعزّهم المُنقضي، وكُلَّما أردنا التفاخُر؛ لم نجد سوى قُدماءِ المِصريين وعظمتِهم. نزهو بصنيعِهم، ونُباهي الآخرين بأثرِهم؛ العَظَمَة في نهايةِ الأمر لهم، ولنا أشياءٌ أُخَر.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات