الثورة والديمقراطية: قراءة مختلفة فى أزمة مارس 1954 - وليد محمود عبد الناصر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:26 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الثورة والديمقراطية: قراءة مختلفة فى أزمة مارس 1954

نشر فى : الإثنين 1 أبريل 2019 - 10:45 م | آخر تحديث : الإثنين 1 أبريل 2019 - 10:45 م

تمر هذه الأيام الذكرى الخامسة والستون لإحدى أشهر الأزمات السياسية وأكثرها دلالة وتأثيرا لعقود بعدها فى تاريخ مصر الحديث والمعاصر، ألا وهى أزمة مارس 1954، والتى لخصها البعض منذ ذلك التاريخ فى مقولة موجزة تتمثل فى الخيار ما بين استمرار الثورة (ثورة 23 يوليو 1952 وقتها) وبين عودة الديمقراطية السياسية التعددية، بعد إصلاح مفترض للنظام السياسى الذى كان سائدا قبل ثورة 23 يوليو 1952، وهى ايضا أزمة حاول البعض وصفها بأنها كانت صراعا على السلطة، سواء داخل صفوف «مجلس قيادة الثورة» الذى شكله تنظيم الأحرار لإدارة البلاد بعد تولى زمام الأمور ليلة 23 يوليو 1952، أو عبر تحالف قوى فكرية وسياسية واجتماعية متنوعة مع هذا التيار أو ذاك داخل صفوف مجلس قيادة الثورة.
ولا شك أن أزمة مارس 1954 كانت فى جوهرها تعبيرا عن الصراع بين تيارين. فمن جانب كان هناك من يرى استمرار الضباط الأحرار فى الحكم تحت شعار «استكمال تحقيق أهداف ثورة 23 يوليو»، خاصة استكمال الجمع بين التفاوض مع المحتل البريطانى لتحقيق الجلاء من منطقة قناة السويس وبين حرب الفدائيين ضد معسكرات قوات الاحتلال فى منطقة القناة بالتعاون مع الضباط الأحرار والمؤسسات الجديدة للدولة المصرية، خاصة المخابرات العامة التى أنشئت عام 1953، بهدف ممارسة الضغط على المحتل كى يحمل عصاه على كاهله ويرحل، بالإضافة إلى السعى من أجل تحقيق المزيد من المكاسب على صعيد تحقيق العدالة الاجتماعية، وكذلك التشكك وعدم الثقة فى أن عودة النخب السياسية السابقة على ثورة 23 يوليو إلى الحكم ستؤدى إلى الاحتفاظ بما تحقق من مكاسب، ناهيكم عن أن تحقق إنجازات إضافية، خاصة على صعيد إنجاز مهمة التحرر الوطنى واستكمال الاستقلال.
وعلى الجانب الآخر كان هناك من يرى أن الثورة قامت بدورها فى إصلاح النظام السياسى عبر ما سمى آنذاك بـ«تطهير الأحزاب»، وإن تحفظ هؤلاء على قرار حل الأحزاب فى يناير 1953 وبناء التنظيم السياسى الوحيد آنذاك المسمى بـ«هيئة التحرير»، كما أسهمت الثورة فى إصلاح النظام الاقتصادى وإضفاء أبعاد تتصل بالعدالة الاجتماعية، خاصة عبر إصدار قانون الإصلاح الزراعى فى عام 1952، كما حققت إنجازا على صعيد النظام السياسى من خلال إلغاء النظام الملكى وإعلان الجمهورية فى 18 يونيو 1953، وبالتالى فإن مجلس قيادة الثورة، من وجهة نظر أصحاب هذا الطرح، قام بما عليه من واجبات أساسية ونفذ الخطوط العريضة والأساسية لما وعد به الشعب المصرى، ومن ثم فأصبح عليه تحقيق تعهده السابق وتسليم السلطة إلى القوى والتيارات المدنية وعودة قوات الجيش إلى ثكناتها لممارسة دورها الرئيسى فى حماية حدود الوطن ووحدته وسلامة أراضيه، خاصة بعد الإنجازات التى حققها مجلس قيادة الثورة وهو فى مقاعد السلطة.
ومن المأمول بعد كل هذه السنوات التى مرت على أزمة مارس 1954 أن يكون أنصار وأتباع طرحى طرفى تلك الأزمة قد وصلوا إلى مرحلة من القدرة على مراجعة أنفسهم على أرضية الانتماء إلى الوطن الواحد، مع التمكن من تحييد الانحيازات المسبقة الموجودة أو على الأقل الإقرار بها والسعى نحو تحجيم تأثيرها، وأى محاولة فى هذا الاتجاه أكاد أجزم أنها ستؤدى بأنصار الطرفين إلى الاقتراب من نقاط مشتركة أو على الأقل الوصول إلى مرحلة تفهم كل طرف لمنطلقات الطرف الآخر.
ويعنى ما تقدم من الناحية العملية العديد من المعطيات على الأرض، فمن جهة فإن الكثير من أنصار ثورة 23 يوليو 1952، وتحديدا القوى الناصرية، اتهمت الرئيس الراحل أنور السادات بأنه تمكن بسهولة من التراجع عن الكثير مما يعتبرونه منجزات المرحلة الناصرية، وذلك فى فترة قصيرة نسبيا وبدون مقاومة ذات أهمية، ويترتب على ذلك بالضرورة الدفع بأن السبب الرئيسى فى حدوث ذلك هو ضعف المؤسسات القائمة آنذاك، وفى مقدمتها فى تلك المرحلة التنظيم السياسى الوحيد «الاتحاد الاشتراكى العربى»، إلا أن التسلسل المنطقى للتفكير الممنهج هو أن هذا الضعف لتلك المؤسسات نتج اساسا عن غياب الديمقراطية، بمعنى المشاركة الشعبية من جهة والرقابة الشعبية من جهة أخرى، وهو الأمر الذى مكن بسهولة، حتى من وجهة نظر أنصار ثورة 23 يوليو 1952، من سرعة النجاح فى التخلص من عدد من مكاسب الثورة القومية والاجتماعية خلال الحقبة الساداتية على وجه الخصوص. وقد حاول بعض المفكرين من أنصار ثورة يوليو بالفعل وضع تصورات افتراضية فيما إذا كانت الثورة نجحت فى تحقيق هدفها السادس: «إقامة حياة ديمقراطية سليمة»، وهل كان آنذاك «الارتداد»، من وجهة نظر هؤلاء، على منجزات الثورة سيتم بهذه السرعة والسهولة؟ إلا أن هؤلاء قد يدفعون بالمقابل أن الإنجازات أصلا لم تكن لتتحقق لو كان قد تم تسليم مقاليد الأمور فى البلاد إلى النخب القديمة.
ومن جهة أخرى، فإن من انتصر لخيار «الديمقراطية» فى أزمة مارس 1954 لابد أنه يتساءل الآن، ولو فى حوار داخلى مع نفسه فقط، ماذا لو تحقق لأصحاب طرح توقف الثورة وعودة الجيش للثكنات وتسليم السلطة للنخبة السياسية التى كانت موجودة فى مارس 1954؟ هل كان الحكام الجدد / القدامى سيستكملون ما قامت به وبدأته ثورة يوليو فى عاميها الأولين من إنجازات، مع الإقرار بوجود إخفاقات وهزائم، وهل كانت اتفاقية الجلاء عن مصر التى تم توقيعها مع بريطانيا فى أكتوبر 1954 مثلا سيتم التوصل إليها أصلا؟ وهل كان تأميم قناة السويس والتصدى للعدوان الثلاثى عام 1956 وبناء السد العالى بدءا من عام 1960 سيتم كله على النحو الذى تم؟ وهل كانت الثورة الصناعية وتلك التى حدثت فى الطاقة الكهربائية واتساع رقعة الاراضى المستصلحة ستتحقق؟ وهل كانت الإنجازات على صعيد العدالة الاجتماعية ستتواصل وتتضاعف أو حتى سيستمر ما تحقق منها؟ ليس من المؤكد أن الأمور كانت ستتحرك فى ذات الاتجاه، ولكن هؤلاء أيضا قد يدفعون من جانبهم أنه بجانب هذه الإيجابيات فإن هناك سلبيات وأخطاء عديدة، ربما هى أيضا لما كانت لتتحقق لو لم يستمر مجلس قيادة الثورة فى الحكم ثم تتلوه الولايات الرئاسية للرئيس الراحل جمال عبدالناصر وما تلاه.
ربما ينظر البعض إلى ما تقدم بأنه سيناريو افتراضى بحت لا صلة له بالواقع المعاش أو بما حدث فى مجريات التاريخ من أحداث أو بما هو كامن داخل العقول والنفوس من قناعات ومواقف، إلا أنه بقليل من الهدوء يمكن التوصل إلى النقيض، أى أن ما تقدم هو سيناريو يتحقق، ولو بشكل تدريجى وبطىء على الأرض، وأنه كلما تقدم تحقق هذا السيناريو كلما اقترب أنصار المعسكرين اللذين تصارعا فى مارس 1954، ليس بالضرورة من الوصول إلى وحدة فى الرأى، لأن التنوع والتعدد من سنن الحياة، ولكن على الأقل للوصول إلى معايير مشتركة للفهم والتوصل إلى أرضية وطنية مشتركة واحدة.

وليد محمود عبد الناصر مفكر وكاتب مصرى
التعليقات