القطاع الخاص وتنمية الموارد البشرية - وليد محمود عبد الناصر - بوابة الشروق
الأربعاء 15 يناير 2025 10:50 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القطاع الخاص وتنمية الموارد البشرية

نشر فى : الأربعاء 15 يناير 2025 - 8:10 م | آخر تحديث : الأربعاء 15 يناير 2025 - 8:10 م

منذ مراحل مبكرة من التاريخ الإنسانى، وبشكل أكثر تحديدًا منذ آخر قرنين من الألفية الأولى، عرف الوطن العربى والعالم الإسلامى الإرهاصات الأولى لظاهرة «الوقف» لأغراض خيرية فى مجال الإنفاق على المؤسسات والأغراض التعليمية. وعقب ذلك التاريخ بحوالى قرنين من الزمان بدأ الغرب يشهد الإرهاصات الأولى لنفس الظاهرة، واتسمت فى حالة البلدان الغربية بالاستمرارية منذ ذلك التاريخ بالإضافة إلى التطور والتوسع فيها، سواء فى البلدان الأوروبية أو فى بلدان العالم الجديد بعد اكتشافه. أما فيما يتعلق بمصر، فقد عرفت تلك الظاهرة لأول مرة مع نشأة جامعة الأزهر فى القاهرة فى عام 970 من الميلاد.
إلا أنه بدءًا من القرن التاسع عشر، وبشكل أكثر تحديدًا تحت حكم الوالى محمد على باشا وأسرته الحاكمة من بعده، شهدت مصر على مدار أكثر من قرن ونصف من الزمان عملية التوسع فى الأوقاف التى كان يكرس عائدها للإنفاق على المؤسسات التعليمية والأكاديمية. وقد أدت هذه العملية إلى التمكين بشكل متزايد من إقامة مدارس حديثة، إلى جانب المدارس المتواجدة آنذاك والتى كانت تابعة لمؤسسة الأزهر الشريف وجامعته. وقد لعبت هذه الأوقاف، المقدمة عادة من جانب أفراد ثم اتسعت لاحقًا لتكون مقدمة من جانب هيئات ومؤسسات أيضًا، دورًا محوريًا فى تحويل حلم المصريين فى بناء أول جامعة وطنية حديثة فى مصر إلى حقيقة فى 21 ديسمبر 1908، وهى جامعة القاهرة.
وفى الأزمنة الحديثة، تم اعتبار العملية المشار إليها فيما سبق جزءًا لا يتجزأ ومكونًا عضويًا وهامًا مما جرى على تسميته بـ «المسئولية الاجتماعية للمؤسسات الاقتصادية». وجاء ظهور هذا المفهوم فى الأدبيات الحديثة للعلوم الاجتماعية متواكبًا على وجه الخصوص مع صعود القطاع الخاص، بالمعنى القانونى الحديث للكلمة، فى الحياة الاقتصادية للعالم، وخاصة اقتصاديات السوق المتقدمة فى الغرب. وعقب ذلك، ومع تزايد حصول بلدان الجنوب على استقلالها الوطنى أو تأسيس بلدان حديثة بها، امتدت تلك العملية لتشمل البلدان النامية أيضًا، خاصة تلك التى تبنت اقتصاديات ذات طابع ليبرالى فى فترة ما بين الحربين العالميتين فى القرن العشرين.
وفى حالة مصر على وجه الخصوص، فقد نما القطاع الخاص المحلى نتيجة أزمات وأوجه نقص شديدة عانى منها الاقتصاد المصرى خلال الحرب العالمية الأولى وفى أعقابها. وكان لشخصيات مثل طلعت باشا حرب وغيره من رجال المال والأعمال المصريين، دورهم فى بدء النضال لإنشاء قطاع خاص وطنى مصرى، دخل بدوره فى منافسات شرسة وجادة وغير متكافئة وغير عادلة مع القطاع الخاص الأجنبى العامل فى مصر آنذاك، والذى كان قد راكم العديد من الامتيازات والحصانات عبر الزمن، وكان محميًا بعدد من المعاهدات والاتفاقيات ذات الطابع الاستعمارى بين الحكومات المصرية المتعاقبة فى ذلك الوقت وبين حكومات بعض البلدان الأجنبية.
وفى نهاية المطاف، نجح القطاع الخاص المصرى فى أن يشق طريقه وسط الكثير من المصاعب وأن يعزز مواقعه بقوة فى القطاعات الزراعية والمالية والصناعية والتجارية. وعلى مدار مراحل تطوره منذ عقد العشرينيات من القرن العشرين، ساهم القطاع الخاص المصرى، بدرجات متفاوتة، فى مسيرة التنمية الاجتماعية للمجتمع المصرى فى مجالات مختلفة، بما فى ذلك تمويل المؤسسات التعليمية والأكاديمية وما يرتبط بها من أنشطة وبرامج ومشروعات وبنية تحتية. وقد حدث ذلك بالرغم من التحديات والأزمات التى واجهها القطاع الخاص المصرى خلال وعقب الحرب العالمية الثانية. ولقد استمر دور الأنشطة الخيرية للقطاع الخاص المصرى، بجانب الأوقاف المكرسة لتمويل المؤسسات التعليمية والأكاديمية، إلى ما بعد ثورة 23 يوليو 1952 وحتى الموجات المتتالية من قرارات التأميم التى بدأت بإصدار ما جرى على تسميته بـ «قوانين يوليو الاشتراكية» فى يوليو 1961. وقد عادت بعض تلك الأنشطة إلى الحياة، ولو بشكل جزئى وغير مكتمل، مع تعزيز الدور الاقتصادى للقطاع الخاص المصرى بعد إعلان الرئيس الراحل أنور السادات عن إطلاق سياسة الانفتاح الاقتصادى فى عام 1974.
ولقد ورد كل ما تقدم فى ذهنى منذ عدة أيام عندما سعدت بحضور احتفالية إطلاق «كلية أنسى ساويرس لإدارة الأعمال» بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. وقد مثل هذا الحدث، الذى نظمته بشكل مشترك الجامعة الأمريكية بالقاهرة وعائلة ساويرس، واحدة من أهم المعالم فى التاريخ المعاصر لقيام القطاع الخاص المصرى بدوره فى خدمة المجتمع المصرى بشكل عام وفى خدمة قضايا التعليم وتنمية الموارد البشرية على وجه الخصوص. وبالتأكيد فإن احتفالية إطلاق كلية أنسى ساويرس لإدارة الأعمال بالجامعة الأمريكية بالقاهرة ليس الحالة الأولى لمساهمة القطاع الخاص المصرى فى مجال التعليم، كما أنها ليست المرة الأولى لمساهمات عائلة ساويرس فى هذه المضمار، وهى العائلة التى ساهمت على مدار عقود سابقة فى مسيرة التنمية الاجتماعية فى مصر عبر طرق شتى. إلا أن المساهمة هذه المرة هى الأكبر من خلال إنشاء وقف بقيمة تفوق مبلغ الثلاثين مليون دولار سوف يستخدم عائده لتمويل برامج ومشروعات مختلفة لكلية إدارة الأعمال بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.
وقد رد رئيس الجامعة الأمريكية بالقاهرة الدكتور أحمد دلال وعميد كلية إدارة الأعمال بالجامعة الدكتور شريف كامل على هذه الهدية القيمة من عائلة ساويرس من خلال إعادة تسمية كلية إدارة الأعمال بالجامعة ليكون «كلية أنسى ساويرس لإدارة الأعمال». وسوف تكرس الموارد التى ستتولد عن هذا الوقف لتمويل عدد واسع من الخطط الخاصة بمستقبل كلية أنسى ساويرس لإدارة الأعمال بما يتضمن، ولكن لا يقتصر على، تقديم منح دراسية جديدة وإضافية لطلاب ودارسين وكذلك تعزيز الاستثمار فى البحوث والدراسات من جانب أعضاء هيئة التدريس بالكلية.
وبالتالى فإن كلية أنسى ساويرس لإدارة الأعمال تمثل مرحلة جديدة وهامة فى سياق إرث طويل من مساهمة عائلة ساويرس فى دعم التعليم فى مصر. وجاءت هذه الخطوة الجديدة لتشكل تتويجًا لجهود ومساهمات سابقة لعائلة ساويرس فى هذا القطاع الهام، حيث سبقها قيامهم بتمويل منح دراسية لأعداد من الطلاب من صعيد مصر ولأعداد من الطلاب من ذوى الهمم بما ساهم فى تعزيز التكافل الاجتماعى. وبالإضافة إلى ذلك، فقد سبق لعائلة ساويرس أن قامت بتمويل أنشطة بحثية خاصة بتعزيز دور المرأة فى المجتمع وكذلك، وعلى مدار سنوات طويلة، قدموا بشكل مستمر فرصًا للتدريب وإعادة التدريب وإعادة التأهيل من الناحية المهنية استفاد منها عشرات الآلاف من الشباب المصريين والشابات المصريات ليتمكنوا من إيجاد فرص عمل وكسب مشروع جديدة لهم.
ومن الممكن أن نعتبر هذا القرار من عائلة ساويرس وجهودهم المشتركة مع الجامعة الأمريكية فى القاهرة حالة ناجحة من حالات استثمار القطاع الخاص المصرى فى تنمية الموارد البشرية تشجع مؤسسات وشخصيات بارزة أخرى فى مختلف دوائر القطاع الخاص المصرى فى المجالات الصناعية والمصرفية والخدمية والتجارية على أن تساهم بدورها فى الاستثمار فى التعليم فى مصر. ولا ينفى ما تقدم حقيقة أن مؤسسات وشخصيات أخرى من القطاع الخاص المصرى ساهمت ولا تزال تساهم فى العديد من الجهود التى تستهدف جهود خدمة التنمية الاجتماعية فى مصر بشكل عام والتعليم وتنمية الموارد البشرية على وجه الخصوص. ولا توجد صيغة واحدة لكيفية قيام القطاع الخاص المصرى بالاستثمار فى التعليم أو بالقيام بمهامه الوطنية فى تنفيذ مسئولياته الاجتماعية، حيث توجد نماذج متعددة ومتنوعة يمكن اتباعها لهذا الغرض. ويبقى الأهم وهو تحقيق المساهمة بشكل ثرى ومستدام فى آن واحد فى عملية التنمية الاجتماعية فى وطننا الغالى مصر.

وليد محمود عبد الناصر مفكر وكاتب مصرى
التعليقات