تسارعت وتيرة الأحداث والتطورات فى سوريا ومن حولها وبشأنها على مدار الفترة القليلة الماضية وصولاً إلى انتهاء حكم الرئيس السابق بشار الأسد فى 8 ديسمبر 2024، وانطلقت العديد من الأطروحات تحاول تفسير ما حدث، وجميعها تستحق الدراسة والتدقيق والتأمل وكل منها يحمل بداخله افتراضات ويخلص إلى استنتاجات، ولكننا سوف نحاول فى السطور التالية النظر إلى الصورة العامة ورؤية المشهد فى سياقه الأكبر مع الأخذ فى الاعتبار التطورات التاريخية على مدار العقود الماضية، وتحديدا منذ استقلال سوريا وانتهاء الانتداب الفرنسى عليها فى عام 1943، بكل تأثيرها المستمر حتى اللحظة الراهنة، ومع الربط بين تلك التطورات من جهة والمشهد الحالى من جهة ثانية والمخططات التى تصيغها قوى إقليمية ودولية بشأن مستقبل المنطقة ككل وإعادة رسم خريطتها، كما أشرنا فى مقال سابق من جهة ثالثة (الشروق، عدد الخميس 5 ديسمبر 2024).
وأول ما يستدعيه المشهد الراهن إلى الذاكرة هو ما كان قد ذكره الكاتب والصحفى البريطانى الراحل «باتريك سيل» المتخصص فى شئون الشرق الأوسط ومراسل جريدة الـ «أوبزرفر» البريطانية ذائعة الصيت لسنوات طويلة، وهو صاحب مؤلفين شديدى الأهمية حول سوريا وهما كتاب «الصراع من أجل سوريا» الصادر فى عام 1965 والذى تناول فيه سوريا ما بين انتهاء الحرب العالمية الثانية فى عام 1945 والوحدة السورية المصرية فى عام 1958، أما الكتاب الثانى فهو «الأسد: الصراع من أجل الشرق الأوسط» الصادر عام 1988، والذى تناول فيه سوريا تحت حكم الرئيس السورى الراحل حافظ الأسد الذى تولى السلطة فى سوريا فى نوفمبر 1970.
والسبب فى استدعاء «باتريك سيل» هو أنه منذ كتابه الأول اعتبر أن «السيطرة» على سوريا، سواء بالمعنى المباشر أو غير المباشر، هو بمثابة مفتاح «السيطرة» على الشرق الأوسط ككل، وأن الطرف أو الأطراف التى سيكون لها اليد الطولى بشأن تحديد مسار الأحداث فى سوريا ستكون فى موقع أفضل بكثير يمكنها من إملاء قواعد اللعبة فى الشرق الأوسط ككل وفرض «أجندتها» على المنطقة.
فسوريا كانت رمانة الميزان فيما شهدته المنطقة من صراع حول من يخلف الاستعمار الأوروبى بعد جلائه عن عدد كبير من الدول العربية فى خمسينيات القرن العشرين: هل ستكون الدول العربية المستقلة والمتضامنة فيما بينها هى التى ستقرر مصير المنطقة باعتبارها منطقة ذات غالبية عربية، أم أن الاستعمار سيعود بشكل أو أشكال أخرى غير مباشرة، خاصة فى هيئة أحلاف عسكرية وسياسية تابعة للغرب أو على أقل تقدير موالية له فى سياق الحرب الباردة آنذاك بين المعسكرين الغربى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والشرقى بقيادة الاتحاد السوفيتى السابق، وهى أحلاف كان مخططا لها فى ذلك الوقت دورها أن تجمع دولاً عربية وأخرى غير عربية، وتحديدا إيران تحت حكم أسرة بهلوى وتركيا العضو فى حلف شمال الأطلسى.
إلا أن مواقف سوريا الرسمية والشعبية آنذاك كان لها دور هام فى إسقاط الأحلاف الغربية المقترحة، وذلك عبر التجاوب السورى مع المواقف المصرية المعادية لكافة الصيغ المطروحة وكان من أهمها صيغة «حلف بغداد» وغيرها من الصيغ التى استهدف بها الغرب ما كان يطلق عليه «ملء الفراغ الاستراتيجى» الناتج عن انتهاء الاستعمار الأوروبى التقليدى فى المنطقة العربية، كما دعمت سوريا مصر فى قرار تأميم قناة السويس ثم فى التصدى للعدوان الثلاثى فى عام 1956، وانتهى الأمر بوحدة اندماجية بين مصر وسوريا جرت سريعا فى فبراير من عام 1958، رأت فيها القيادة السياسية السورية حينذاك خلاصا لسوريا من مخاطر تحيق بها ومخططات تصاغ ضدها، وهى وحدة لم يكتب لها البقاء سواء لثلاث سنوات وسبعة أشهر لأسباب عديدة داخلية وخارجية تناولتها كتابات كثيرة عربية وأجنبية من قبل وليس هنا المجال لتناولها.
وعقب الانفصال فى سبتمبر 1961، استمرت سوريا محورا للكثير من الأحداث والتطورات الإقليمية العظام، فما بين محاولة الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق فى عام 1963 والنفور بين القيادتين السياسيتين فى مصر وسوريا بعد انقلاب 1966 فى سوريا، وهو نفور كان له دوره فى هزيمة العرب فى حرب يونيو 1967، إلى تعاون وتنسيق سورى مصرى سعودى كان له دوره فيما حققه العرب من إنجاز فى حرب أكتوبر 1973.
وعلى مدار النصف قرن الأخير تعددت وتنوعت المسارات والدروب التى اتبعتها سوريا داخليا وإقليميا ودوليا، وارتبط بذلك تعدد وتنوع، بنفس القدر أو ربما أكثر، لسيناريوهات رسمتها وسعت لتنفيذها قوى إقليمية ودولية بغرض السعى من أجل التأثير على المشهد السورى، سواء داخليا أو على صعيد السياسات الإقليمية والدور الإقليمى لسوريا أو على صعيد المواقف الدولية لسوريا.
ومرت بالمنطقة خلال العقود الخمسة الأخيرة أحداث جسام كان للمواقف السورية إزائها دلالاتها وأهميتها ومغزاها لدى القوى الإقليمية والدولية على حد سواء، ما بين مسار ما جرى على تسميته بـ «عملية السلام» فى الشرق الوسط وتفريعاتها ومراحلها المختلفة منذ ما بعد حرب أكتوبر 1973، والحرب الأهلية اللبنانية ما بين عامى 1975 و1990، والغزو الإسرائيلى تلو الآخر للبنان بدءًا من الغزو الجزئى فى عام 1978 ثم الشامل فى عام 1982، والتطورات التالية للشأن اللبناني، ومن جانب آخر الثورة الإيرانية فى فبراير 1979، والحرب العراقية الإيرانية التى أعقبتها فى عام 1980، والانتفاضات الفلسطينية المتتالية منذ الانتفاضة الأولى فى عام 1987، وتصاعد قوة التيارات السياسية ذات التوجهات الإسلامية الأصولية أو السلفية أو المتطرفة فى الوطن العربى وفى منطقة الشرق الأوسط وفى العالم الإسلامى ككل، والاقتراب من تسوية للصراع بين سوريا وإسرائيل فى منتصف عقد التسعينيات من القرن العشرين، وهو الأمر الذى لم يكلل بالنجاح بل وتراجع وتوارى كثيراً، ثم الغزو الأمريكى للعراق فى عام 2003 وتداعياته المدوية على الصعيد الإقليمى، والانتفاضات التى جرت فى العديد من البلدان العربية وجرى على تسميتها بـ «الربيع العربى» بدءًا من نهايات عام 2010، وانعكاسات ذلك كله على الداخل السورى، وما آلت إليه الأمور من تدخل أطراف إقليمية ودولية عديدة وبشكل واضح مباشر أو غير مباشر فى الشأن السورى، وصولاً إلى التصعيد خلال الفترة السابقة فى المواجهات العسكرية المباشرة وغير المباشرة بين إيران وإسرائيل ووقوع سوريا وسطها وتأثرها المباشر بها فى أكثر من مشهد وحدث، خاصة على مدار العامين الأخيرين.
كل ذلك أدى إلى أن يتركز اهتمام القوى الدولية والإقليمية على سوريا، وهو ما مهد بدوره للأحداث الجارية هناك والتى بدأت الفترة القليلة الماضية، فالأمر مرة أخرى ليس فقط «صراعا على سوريا»، بل فى الواقع أن تلك القوى الإقليمية والدولية تذهب خطوات أبعد بحيث تعتبر «الصراع على سوريا» هو بمثابة «صراع على الشرق الأوسط»، وهو صراع لم يتوقف أبدا فى حقيقة الأمر منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، ولكنه يبدو أنه يقترب من مرحلة مفصلية جديدة فى تاريخه ومن نقطة تحول نوعية سوف يكون لها مغزى تاريخى وتداعيات هامة وذات دلالة، لأن نتائج وآثار وانعكاسات ما يحدث الآن على الأراضى السورية لن يقتصر على داخل حدود سوريا بل سيتجاوزها وسيكون حاضرا ومؤثرا بقوة فى مستقبل الوطن العربى ككل وفى مستقبل منطقة الشرق الأوسط بأسرها فى القادم من الأيام والشهور والسنين، بل والعقود وربما القرون.