أثارت تصريحات أخيرة لرئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو حول مسألة إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط ردود فعل غاضبة من جانب الكثير من المفكرين والمثقفين العرب، داخل الوطن العربى وخارجه، الذين أعربوا عن القلق إزاء التصريحات الأخيرة لنتنياهو، واعتبروها مدعاة لإضافة المزيد من عدم الاستقرار على الأوضاع الملتهبة فى الأساس فى الشرق الأوسط على مدى شهور بل سنوات.
إلا أن الواقع والتاريخ البعيد والقريب لمنطقة الشرق الأوسط يؤكدان لنا أن الحديث عن، بل السعى إلى، إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط ليس أمرًا جديدًا أو مستجدًا، سواء من جانب دول بل قوى أيديولوجية أو سياسية، تنتمى إلى الإقليم أو من جانب دول كبرى على الساحة العالمية من خارج الإقليم. ولئن كانت بعض تلك الدول والقوى من داخل الوطن العربى ذاته، فإن ما سوف نركز عليه هنا هو المحاولات والمساعى التى جاءت من دول إقليمية غير عربية ومن دول من خارج الإقليم كلية.
لكن بداية علينا جميعًا ألا ننسى أن الخريطة الحالية للشرق الأوسط رسمتها دول خارج الإقليم، وتحديدًا منذ أكثر من قرن من الزمان، وهى أساسًا كانت فرنسا وبريطانيا عبر اتفاق «سايكس بيكو» الشهير لعام 1916، الذى كان بمباركة روسية وإيطالية، والذى كشفت عنه ونشرته روسيا بعد انتصار الثورة البلشفية بها فى عام 1917، والاتفاق المذكور لا ينفصل عن كل من «وعد بلفور» البريطانى الممنوح للحركة الصهيونية العالمية فى عام 1917 بمنح اليهود وطن قومى فى فلسطين من جهة، وبنتائج مؤتمر سان ريمو فى إيطاليا لعام 1920 للخلفاء المنتصرين فى الحرب العالمية الأولى، والتى كرست توزيع العراق وسوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن على بريطانيا وفرنسا. وقد تم تقنين تلك الترتيبات الجديدة بين القوى الاستعمارية الأوروبية لتقسيم تركة رجل أوروبا المريض آنذاك، وهى الدولة العثمانية، عبر صكوك الانتداب التى أصدرتها "عصبة الأمم"، التنظيم الدولى آنذاك، وقامت بموجبها بتسليم البلدان العربية للقوى الاستعمارية، وتضمن صك الانتداب على فلسطين إلزام بريطانيا بتنفيذ وعد بلفور.
ومنذ ذلك التاريخ لم تتوقف محاولات ومساعى البلدان غير العربية داخل إقليم الشرق الأوسط وكذلك محاولات قوى كبرى خارج الإقليم لإعادة رسم خريطة المنطقة بما يخدم مصالح تلك الدول والقوى فى المقام الأول، وبما كان، فى الأغلب الأعم من الأحوال، يضر بمصالح الدول العربية فى المنطقة.
وسوف نكتفى فيما يلى بأن نعرض بإيجاز فقط لأمثلة ثلاثة لتلك المحاولات، خاصة تلك التى أتت من بلدان غربية أو من الجانب الإسرائيلى، على مدى العقود الماضية.
وأولى تلك المحاولات التى نتناولها هنا جاءت من جانب بريطانيا، مدعومة من بعض الدول الغربية الأخرى فى ذلك الوقت، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، ومع بواكير انتهاء الحرب العالمية الثانية بانتصار دول الحلفاء (الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد السوفييتى السابق، بريطانيا، فرنسا والصين وغيرها)، وهزيمة دول المحور (ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية واليابان) لدفع الحكومات العربية الحليفة لها فى المنطقة العربية لتشكيل منظمة إقليمية تجمع البلدان العربية المستقلة، سواء تلك التى لم تتعرض للاستعمار الأوروبى، مثل السعودية والمملكة المتوكلية اليمنية فى ذلك الوقت، أو تلك التى كانت قد حققت استقلالًا رسميًا، ولو كان فى بعض الأحيان شكليًا أو منقوصًا، من الاستعمار الأوروبى، مثل مصر وسوريا ولبنان والعراق وإمارة شرق الأردن فى ذلك الوقت.
وبالتأكيد لم يكن الدافع لتلك الجهود البريطانية والغربية آنذاك هو رغبة الغرب فى تحقيق وحدة العرب أو تضامنهم كهدف فى حد ذاته، بل كان الدافع الرئيسى هو السعى لتجميع النخب الحاكمة فى البلدان العربية المستقلة آنذاك، والتى كانت توجهاتها الفكرية قريبة جدًا من، إن لم تكن متطابقة مع، التوجهات الفكرية الغربية، فى كيان واحد يقف أمام ما كان الغرب يراه فى ذلك الوقت بأنها محاولات للتوسع السوفييتى، سواء كان ذلك التوسع سياسيًا أو عقائديًا، وللحيلولة دون وصول السوفييت استراتيجيًا وأمنيًا إلى «المياه الدافئة»، بما يشكل تهديدًا لمصالح الغرب فى الوطن العربى.
وإن كانت جامعة الدول العربية، وبعد إنشائها كمنظمة إقليمية عربية فى عام 1945، قد تحولت فى بعض الأوقات إلى رقم إيجابى فى المعادلة العربية، فإن ذلك التحول قد حدث بفعل تغيرات ثورية شهدتها العديد من البلدان العربية منذ خمسينيات القرن العشرين، وأدت إلى هذا التحول الإيجابى فى مسار ومسيرة الجامعة العربية.
أما ثانى المحاولات لإعادة رسم خريطة منطقة الشرق الأوسط من جانب بلدان غربية أو إسرائيل والتى نتناولها هنا فقد جاءت من الجانب الإسرائيلى، فى تسعينيات القرن العشرين، وكان لها سياقها الخاص. فقد انعقد مؤتمر مدريد للسلام فى الشرق الأوسط فى ديسمبر 1991 برعاية أمريكية روسية مشتركة، وأسفر عن انطلاق مسارين الأول ثنائى بين كل طرف عربى من الأطراف المجاورة وإسرائيل، والآخر متعدد أطراف شمل دول المنطقة وغطى موضوعات شملت قضايا ضبط التسلح والأمن الإقليمى، المياه، اللاجئين، التنمية الاقتصادية، والبيئة.
وعلى إثر تلك النقاشات المتعددة الأطراف التى انطلقت آنذاك طرح وزير الخارجية الإسرائيلى والقيادى البارز فى حزب العمال فى ذلك الوقت شيمون بيريز تصوره لما أسماه بـ«الشرق الأوسط الجديد»، وهو تصور صدر فى كتاب حمل نفس الاسم فى عام 1993، وفى ظل تفاؤل بنجاح تلك النقاشات متعددة الأطراف وتفاؤل مماثل فى ذلك الوقت بنجاح المسارات الثنائية، انصب طرح بيريز على أنه يمكن بدء تطبيع العلاقات بين البلدان العربية وإسرائيل، بل والانطلاق إلى آفاق ترتيبات إقليمية للتعاون الاقتصادى بما يشمل مجالات الطاقة والمياه وغيرها، دون الانتظار حتى لخروج نتائج نهائية إيجابية لمسارات المفاوضات الثنائية الخاصة بتحقيق السلام بين إسرائيل وكل من الأردن وسوريا ولبنان والفلسطينيين، باعتبار أن التعاون الاقتصادى سيوجد بيئة إقليمية تساعد على نجاح المفاوضات الثنائية.
وكان من الواضح أن بيريز، ومن خلفه حزب العمال الإسرائيلى وحكومته، يريان أن بناء تعاونًا اقتصاديًا إقليميًا فى الشرق الأوسط من شأنه إعادة «تقسيم العمل» فى المنطقة، بحيث تكون البلدان العربية، كل بحسب ميزته النسبية، إما مصدرًا للعمالة أو للطاقة أو للمياه أو للتمويل، بينما تلعب إسرائيل دور القائد للمنطقة بتكنولوجياتها المتقدمة وعلاقاتها المتميزة مع الغرب والتميز لكوادرها البشرية التى تصلح للعب دور القيادة لتلك الترتيبات الإقليمية الجديدة.
إلا أن اغتيال اسحق رابين زعيم حزب العمل الإسرائيلى ورئيس الحكومة فى 4 نوفمبر 1995 ومجىء اليمين الإسرائيلى بقيادة «بنيامين نتنياهو» إلى السلطة بعد انتخابات 1996، وما أعقب ذلك من تعثر مسار المفاوضات الثنائية من جهة، ومن ثم تعثر وتوقف المفاوضات متعددة الأطراف من جهة أخرى، أطاح بطرح بيريز وأحلامه بشأن «الشرق الأوسط الجديد».
أما ثالث وآخر المحاولات التى سنعرض لها هنا بشأن إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، فكانت على أيدى "المحافظين الجدد" فى إدارة الرئيس الأمريكى الجمهورى الأسبق جورج دبليو بوش، وفى الواقع فإن تصوراتهم وأطروحاتهم سبقت مجيء بوش الابن إلى السلطة، وكانوا قد بلوروها فى تسعينيات القرن العشرين، وبدأوا فى السعى إلى ترجمتها إلى واقع على الأرض بعد تولى جورج بوش الابن منصب الرئيس فى يناير 2001.
وكان لدى «المحافظين الجدد» تصورات واضحة، سواء بشأن ما أسموه بالحاجة لإعادة رسم حدود بعض الدول العربية، بالإضافة إلى دول غير عربية، بتقسيم تلك الدول إلى دويلات أصغر على أسس طائفية أو عرقية أو مذهبية، أو بشأن تصنيف عدد من الدول العربية، بالإضافة إلى عدد أقل من الدول غير العربية، بأنها تمثل دول محور الشر التى يجب أن تجابهها الولايات المتحدة الأمريكية، ومن خلفها العالم بأسره، للتخلص من النظم الحاكمة فيها.
ولا شك أن المحافظين الجدد أحسنوا توظيف هجمات الحادى عشر من سبتمبر 2001 على الولايات المتحدة الأمريكية لحشد الدعم الداخلى والخارجى وتعبئة الجهود وتوجيهها لتحقيق جزء من مخططاتها، وتحديدًا غزو العراق فى عام 2003. فإن كان غزو أفغانستان فى أكتوبر 2001 كان منطقيًا فى ضوء أن نظام الطالبان الحاكم فى أفغانستان فى ذلك الوقت كان يستضيف وفى حالة تحالف مع تنظيم القاعدة المتهم الأول فى هجمات 11 سبتمبر 2001، فإن صبغ الشرعية على الغزو الأمريكى للعراق فى عام 2003 احتاج لاختلاق العديد من الأدلة التى ثبت بعد ذلك أنها تمت فبركتها، لتبرير ذلك الغزو سواء أمام الرأى العام الأمريكى أو أمام المجتمع الدولى.
ولم يكن الأمر ليتوقف عند حدود غزو العراق، بل كان المخطط أن يشمل دولًا عربية وغير عربية أخرى، إلا أن تبعات الغزو الأمريكى للعراق ونتائجه وما ترتب عليه لسنوات من حالة فوضى فى هذا البلد العربى الكبير وما ثبت من عجز الولايات المتحدة عن ترتيب أوضاعه بعد احتلاله مباشرة، أى ظهور الغياب الأمريكى لتصور اليوم التالى، وحالة الغضب الشعبى العربى والإسلامى وكذلك من مناطق أخرى من العالم إزاء ما ألحقه الغزو من دمار بالعراق وشعبه، واكتشاف اختلاق مبررات الغزو من الخيال، كلها عوامل أدت إلى توقف مشروع المحافظين الجدد مرحليًا وإن تبنوا، بدلًا من الغزو العسكرى المباشر، وسائل ضغط أخرى على الدول المراد النيل من سيادتها ووحدة أراضيها.
والآن، ونحن بانتظار التعرف على تصور حكومة اليمين الإسرائيلى بزعامة نتنياهو لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط من منظورها، وفى ظل قدوم إدارة أمريكية جديدة أثبتت عندما تولت السلطة فى واشنطن من قبل مدى حميمية علاقاتها وتحالفاتها مع اليمين الإسرائيلى خاصة ومع إسرائيل بشكل عام، فإن العرب فى حاجة إلى بلورة تصور عربى مشترك لمستقبل المنطقة من منظور المصالح الاستراتيجية العربية.